إقامة الدولة في ظل قانون السببية: التفاتة سريعة لمواضع ذكر السنن في القرآن
إقامة الدولة في ظل قانون السببية
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الجزء الخامس: التفاتة سريعة لمواضع ذكر السنن في القرآن)
لا نستطيع في عجالة أن نبلور كل السنن المذكورة في الآيات ولا استنباطها، وسنقتصر على استنباط ما يحتاجه البحث إن شاء الله تعالىلاحقا، فنكتفي هنا بالالتفاتة السريعة حيث وردت السنن الإلهية في القرآن في المواضع التالية:
1) العبرة من سنن الله في عقابه للمكذبين، سنة تكذيب المتكبرين للرسل، واغترارهم بالدنيا، في السنن عبرة لهم بمن كان أشد منهم قوة وبطشا، فأحاط بهم العذاب، وتهديد المنافقين والكفار بما يخلع قلوبهم ويزلزل أفئدتهم إذا مردوا على النفاق، واستمروا في معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرجعوا، وكذلك هي عبرة لأصحاب الدعوات لدفعهم للثبات على الحق، وسنة عدم قبول الإيمان عند الموت.
﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]، ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ﴾ [الأنفال: 38]، ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾ [الحجر: 11-13]، والآيات الكريمة تتكلم عن حقيقة حتمية لا تتخلف ولا تتبدل وهي الصراع بين الحق والباطل، وما يلقاه أصحاب الحق من استهزاء وتنكيل من أقوام لا يعرف الإيمان سبيلا لقلوبهم، وهذه الحقيقة سنة ماضية ما تخلفت في الذين جاءوا من قبل ولن تتخلف حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والآيات خطاب للمؤمنين لتتهيأ نفوسهم لحقيقة الصراع الذي لا هوادة فيه، مع البشارة لهم بالعاقبة والنصر كما كان للرسل وأتباعهم، وخطاب للمعاندين ألا يسلكوا سبيل الذين خلوا من قبل فما أصابهم من الهلاك لاحق بكم فهي سنة لا تحابي ولا تجامل أحدا[1].
﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا﴾ [الكهف: 55]، ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 61–62]، ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾ [الإسراء: 76-77]، “وردت هذه الآية في سياق الحديث عن صورة من صور الصراع بين الحق والباطل، تنتقل من مجرد بغض الحق وكراهته إلى إظهار العداوة والمبارزة مع أصحاب الدعوة، فالباطل لا يرضى حتى بمجرد وجود الحق لأنه موقن أن في الحق قوة ذاتية متحركة غير ساكنة لا تقبل إلا الانتشار والتوسع والتأثير وكسب الأنصار والأتباع والتمكين والهيمنة له.
وسنة الله انتصار الحق ولو بعد حين ولو دالت للباطل دولة يوما ما فإنها لا تدوم فسرعان ما ينجلي الباطل ويحل الحق وإن أخرجوا الدعاة من ديارهم وإن حبسوهم وإن قتلوهم فلن يحل الباطل محل الحق أبدا؛ سنة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل”[2]
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا﴾ [فاطر: 42–44]، ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: 84–85]
2) سنة الله في نصر المؤمنين، بشارة لهم بالنصر والتمكين، بتمسكهم بالإيمان، والاستعانة بالله والاستنصار به، وضعف الكفار، والعبرة في طريق الدعوات ومآلها بشارة ونذارة ودفعا لحسن العمل.
﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 22–23]، ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: 5].
3) سنن ثابتة في الشرائع التي أنزلت على الرسل، وللتأمل في سنن السابقين لأخذ العبر في أي شأن من شئون الحياة، وللهداية.
﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النساء: 26]، ﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ [الأحزاب: 38]، أي: وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة، وواقعا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن [3].
4) سنن استفدناها من العلية، والشرطية، ودلالات الآيات على السنن في مواطن مختلفة من القرآن:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 140]، ﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 179]، وأمثال هذه الآيات حيث تبين سننا لنزول النصر، فمن لم ينصر الله لن ينصره الله! لم يأخذ بالسبب، فلن يتنزل عليه النصر!
“يعرف أصحاب البصائر من أهل العلم عوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، وعوامل الهدم والخوف والجوع والمرض، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96]. فتبدل الأحوال في المجتمع من الصحة إلى السقم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأمن إلى الخوف، ومن العزة إلى الذلة… مرتبط بإرادة الناس وسلوكهم وأفعالهم السلبية المخالفة لما أمر الله به” [4]، وعدم أخذهم بالأسباب التي وضحتها السنن الإلهية لهم ﴿فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾، والباء هنا سببية، فلا يصح بحال إهمال هذه السنن!
﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: 15]، قال القرطبي: قال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل فيها أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه، ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ﴾ أي فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء، ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ أي ثم ليقطع النصر إن تهيّأ له، ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ﴾ وحيلته ما يغيظه من نصر النبيّ صلى الله عليه وسلم . والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر[5].
تأمل البلاغة: إن سبب النصر متصل بالله تعالى، فلو صعد من كان يظن أن الله لن ينصر نبيه إلى السماء بسبب، ووصل إلى سبب النصر فليقطعه، ليعلم أنه لن يستطيع أن يحول بين نصر النبي صلى الله عليه وسلم والسبب الذي اتصل بالسماء والذي به يتنزل النصر، فإذ لن يستطيع قطع السبب ومنع النصر، فليمت كمدا وغيظا! وهكذا فالأسباب متصلة بالسماء، متحققة بوجود المسببات! حتمية لا يستطيع أحد تغييرها، تتنزل بأمر الله تعالى!
وسنن لمداولة الأيام بين الناس، وسنن الاختبارات والتمحيص، وإلى ما ذلك، فكما ترى فالقرآن مشحون بالسنن وبالأسباب والمسببات!
حديث شريف يختصر مآسي الأمة الإسلامية وفق قانون السببية! فهل من مُدَّكِر؟
وقد جاءَ في قولِ الرسولِ الأكرمِ صلى الله عليه وسلم : «يا معشرَ المهاجرينَ: خصالٌ خمسٌ إذا ابتليتم بهنَّ وأعوذُ باللهِ أن تدركوهنَّ لم تظهرِ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حّتى يُعلنوا بها إلا فشا فيهمُ الطاعونُ، والأوجاعُ التي لم تكن مضتْ في أسلافِهمُ الذين مَضَوْا، ولم يَنقـُصُوا المكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسِّنينَ وشدةِ المؤونةِ، وجَورِ السلطانِ عليهم، ولم يَمنعوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنعوا القطرَ من السماءِ، ولولا البهائم لم يُمطـَروا، ولم يَنقـُضوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِهِ إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عدوَّهُم من غيرِهم، فأخذوا بعضَ ما كانَ في أيديهم، وما لم تـَحكم أئمتـُهُم بكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَتحرَّوْا فيما أنزلَ اللهُ، إلاَّ جعلَ اللهُ بأسَهُم بينـَهُم» رواه ابن ماجه، وهو حديث حسن.
[1] السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع، أبو مريم محمد الجريتلي، موقع الألوكة
[2] السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع، أبو مريم محمد الجريتلي، موقع الألوكة
[3] تفسير القرآن العظيم (3/492)
[4] السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع، أبو مريم محمد الجريتلي، موقع الألوكة
[5] تفسير القرطبي