إقامة الدولة في ظل قانون السببية: تطبيق قانون السنن والسببية على تغيير الدولة
إقامة الدولة في ظل قانون السببية
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الجزء الرابع عشر: تطبيق قانون السنن والسببية على تغيير الدولة)
يشربُ الإنسان عند العطشِ، فالعملُ: شربُ الماءِ، والدافعُ له هو العطش، والغايةُ من الشربِ هي الارتواءُ، ويكون ترتيب الدافع والغاية والعمل في الواقع كما يلي:
1- الدافع، 2- العمل، 3- تحقيق الغاية!
إلا أن هذا الحكم سطحي ويمثل نظرةً سطحية للواقع، لكن بالتعمق فيه نجد أن الإنسان يضع لنفسه أهدافا (غايات) وهو يسعى لتحقيقها من خلال بحثه عن العمل الذي يحقق الغاية ثم يقوم بمباشرة العمل.
وعليه فالترتيب الذي ينبغي أن يصار إليه عند القيام بأيِّ عملٍ من أجلِ غايةٍ ما كما يلي:
1- الدافع، 2- الغاية الـمُتَصَوَّرَة في الذهن، 3- التفكير بالعمل الذي يحقق الغاية وبالتالي يشبع الدافع، 4- التفكير بالأسباب التي لا بد منها لوجود المعلول، والتفكير بالشروط اللازمة وكيفية التفاعل معها (تصميم النظام السببي وتفعيله) 5- العمل 6- تحقيق الغاية في الواقع.
ولهذا نقول إن: الغاية الـمُتَصَوَّرَةَ في الذِّهْنِ تُعيِّنُ نوعَ العمل بأنواعه في النقاط الثالثة والرابعة والخامسة أعلاه
ونقول أيضا إن: الفكر في النقاط الثانية والثالثة والرابعة يأتي قبل العمل، وأن: الفكرَ والعملَ من أجلِ غايةٍ يصل إلى مطابَقَةِ الغايةِ الـمُتَصَوَّرَةَ في الذهنِ، مع الغايةِ المتحققةِ في الواقعِ.
فما هو الدافعُ وما هي الغايةُ المتصورةُ في الذهنِ من وراء عملية تغيير المجتمع وإقامة الدولة على أنقاض دولة أخرى؟ وما هي الأمور التي بتحققها يتحقق بلوغ الغاية؟ وما هي الأسباب التي لا بد من توفرها لحصول هذا العمل بشكل حتمي؟
الجواب:
- الدافع للتغيير هو تغيير دار الكفر إلى دار إسلام، وتمكين الدين، وتطبيق الشريعة، وإنهاض الأمة لتحمل رسالتها للأمم، وتقتعد مكانتها التي ارتضاها الله لها.
- والغاية الـمُتَصَوَّرَة في الذِّهْنِ استئناف الحياة الإسلامية، فهذه الغايات الكبرى، وينتج عن وجودها تحقق غايات أخرى كثيرة جانبية مثل محو الفقر، واستئصال الجريمة، ورفاهية العيش، وتحسين التعليم… الخ.
- وأما نوع العمل الذي يحقق الغاية، فهو إقامة الدولة الإسلامية التي بوجودها: سيتمكن الدين، وبدون وجودها لن يتمكن الدين، وبوجودها: تتحول الدار إلى دار إسلام، وتوضع أحكام الإسلام موضع التطبيق، وينهض المسلمون ويرتقوا، وتقتعد الأمة الإسلامية المكانة اللائقة بها، وتتمكن من حمل رسالتها بين الأمم. (ومن نافلة القول إن الفقر والجهل والبطالة والعنوسة وسائر أدواء المجتمع تحل بتطبيق النظام الإسلامي تطبيقا صحيحا).
- أما الأسباب التي ينبغي التفكير بها والتي بوجودها يتم تفعيل نظام السببية، وبغيابها لن يفضي العمل إلى تحقيق الغاية المتصورة في الذهن، فهي كما قال الإمام تقي الدين النبهاني في جواب سؤال: “وإقامة دولة أي دولة، في جماعة أي جماعة، لها قوانين ونواميس، وهي أن تتقبل تلك الجماعة أو الفئة الأقوى فيها للمفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقوم عليها تلك الدولة، وما لم تتقبل تلك المفاهيم والمقاييس لا يمكن أن تقوم فيها الدولة، ولو تسلط عليها متسلطون، وتولى السلطة فيها أقوياء. فالأصل في إقامة الدولة هو تقبل الجماعة أو الفئة الأقوى لتلك المفاهيم والمقاييس والقناعات، فالخطوة الأولى هي المفاهيم والمقاييس والقناعات. هذه هي نواميس الجماعات، وهذه هي قوانين الحكم والسلطان. فهذه القوانين مشاهدة منظورة، فمحاولة تجاهلها، وأخذ السلطة بالقوة والقهر، لا يمكن أن يوجد الدولة، وإن كان يمكن أن يوجد المتسلطين إلى حين”[1]،
وذلك لأن إقامة الدولة تعني إقامة وأخذ السلطان وهذا لا يتحقق إلا بأمرين:[2]
أحدهما: رعاية المصالح، أي مصالح الناس عامة، (نظام الحكم، وأنظمة الدولة) بأحكام معينة،
وثانيهما: القوة التي تحمي الرعية، وتنفذ الأحكام، أي الأمان.
أما رعاية مصالح الناس عامة (نظام الحكم، وأنظمة الدولة) بأحكام معينة. فقد ثبت بما لا يدعُ مجالاً للشك أن السلطة هي التصرف في مصالح الناس، ومصالح الناس تتحدد قطعاً حسب وجهة نظرهم في الحياة، فما يرونه من أعمال وأشياء مصلحة لهم يعتبرونه مصلحة، وما لا يرونه مصلحة يرفضون أن يعتبروه مصلحة، فالمصلحة إنما تكون من حيث النظرة إليها لا من حيث واقعها فقط، فالموت في سبيل الله (الاستشهاد) يراه المسلم أنه مصلحة مع أنه موت [أي الموت ليس مصلحة في ذاته]، والربا عند المسلم لا يراه مصلحة مع أنه كسب مال [كسب المال هو مصلحة في ذاته]، فوجهة النظر في الحياة حددت طبيعة الشيء بأنه مصلحة أو مفسدة، فالكذب مفسدة ولكنه في الحرب مصلحة، مع أن واقعه أنه كذب لم يختلف في الحالتين، وإنما اختلفت النظرة إليه بحسب وجهة النظر في الحياة،فالمصالح هي قطعاً حسب وجهة النظر في الحياة، فمن يريد أن يأخذ السلطة إنما يعني أنه يريد التصرف في مصالح الناس، فلا بد أنيأخذ هو وجهة نظر الناس وحينئذ يتصرف في مصالحهم حسب وجهة نظرهم، وإما أن يعطيهم وجهة نظره في الحياة فيقنعهم بها ثم يتصرف في مصالحهم، أو أن يجبرهم على رؤيته كما في أنظمة الاستبداد، (والتي لا تدوم لإخلالها بهذا الشرط) وفي الحالتين الأولى والثانية إنما جعل النظرة إلى الحياة أساساً في أخذ التصرف في مصالح الناس، أي أساساً في أخذ السلطة، بناء على رضا الطرفين، وفي الحالة الثالثة اختلفت فقط بفرض وجهة النظر لدى الحاكم على الناس فرضا، وبقيت هي الزاوية التي من خلالها تؤخذ السلطة، وعليهفإن النظرة إلى الحياة هي الأساس في أخذ السلطة، لذلك كان لزاما العمل على تغيير النظرة إلى الحياة إن خالفت تلك النظرةُ الإسلامَ،وإقناع الناس باتخاذ العقيدة الإسلامية أساسا في نظرتهم إلى الحياة وإلى مصالحهم، فحيثما كان الشرع فثم المصلحة، وأن يتحول الرأي العام في المجتمع لاتخاذ هذه النظرة أساسا للحكم، فتقوم بناء على ذلك: مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات من هذه العقيدة، وتحمل إلى المجتمع أو إلى الفئة الأقوى فيه والتي تمتلك القدرة على إحداث التغيير فيه، فيؤخذ الحكم ممن لا يقيمونه على أساس هذه النظرة، من هنا فاستئناف الحياة الإسلامية يقتضي أن تتحول النظرة إلى المصالح والأفعال والشؤون إلى زاوية الإسلام فتتخذ هي الزاوية التي يحكم بها على المصالح وترعى الشؤون على أساسها، لذلك كان عمل الحزب المركزي تغيير المفاهيم والقناعات والمقاييس التي لدى المجتمع لإقامة الدولة على أساس مفاهيم ومقاييس وقناعات إسلامية، يقيم السلطان على أساسها وتحل محل ما يخالف الإسلام في الواقع.[3] فهذا العمل يجري وفقا للسنن الإلهية: التي بينت طريقة عمل الرسول ﷺ والتي استنبطناها منها، ويستجلب النصر من الله بحسن اتباع منهج نبيه ﷺ، ويجري وفقا للسنن المجتمعية، فيحقق إقامة الدولة بالضرورة، وحتما، بإذن الله تعالى.
ويراعي هذا العمل: الشروط اللازمة لإنجاحه من خلال البحث في مقومات الدولة، وكيفية التعامل مع كل مقوم من هذه المقومات بشكل يفضي إلى إحداث التغيير واستمراره!
وأما أخذ الحكم بالقوة، فإنه ليس من السنن، وذلك لأن من يريد أخذ الحكم بالقوة، عليه أن يستعين بقوة أقوى مادياً وفكرياً من قوة الشعب كالاستعانة بنفوذ الدول الكبرى، وبذلك قد يستطيع أن يتغلب على الشعب ويأخذ السلطة، ولكن مثل هذه الدولة تقوم كالجمر من تحت الرماد، لا يلبث أن يشعل النار ولو بعد حين، ولذلك لا يجعل عمل من يأخذ الحكم بالقوة دليلاً على جعل القوة أساساً لأخذ السلطة، فلا بد من جعل نظرة الأمة في الحياة أمراً أساسياً والاستعانة بقوة الأمة الذاتية مادياً وفكرياً.
- وأما القيام بالعمل، فإنه من المعلوم أنه عندما تتوالى المصائب على الأمة، وتتتابع عليها الأحداث الجسام، والخطوب العظام، ويسود فيها الظلم، ويوسد الأمر إلى غير أهله، يبدأ الناس بالتذمر، ثم ينتقل هذا إلى إحساس بالظلم، يدفع إلى الحركة لدفع الظلم، وإبعاد الفساد، ورفع شأن المجتمع والأمة، والنهوض بها إلى المستوى الذي يليق بها، ومن البديهي أن يُلجأ من أجل بلوغ ذلك إلى التكتل، والعمل الجماعي، لإيجاد القوة القادرة على إحداث التغيير، في الخطوب التي تتعدى قدرات الفرد كفرد، بمعزل عن جماعة، أي لإيجاد الطاقة السببية القادرة على تفعيل الأسباب لإنتاج مسبباتها،
ولا شك أن اجتماع هؤلاء القوم من أجل تحقيق ذلك الأمر الذي نهضوا من أجله، سيجمعهم على هدف أو أهداف، أو أفكار يلتفون حولها تتضمن أهدافهم وخطة سيرهم لبلوغ مرامهم، وبدون هذه الأفكار وبدون رسم طريقة لبلوغ الغاية، وبدون تصور للغاية قابل للتطبيق، لن يثمر العمل وستفشل الحركة فشلا ذريعا طال الوقت أم قصر. لذلك فالعمل المطلوب لإحداث هذا التغيير هو العمل الحزبي، والذي سيتطلب وجود حزب، عليه أمير مطاع، ولديه ثقافة متبناة تضع النقاط على الحروف، وترسم مخططا للعملية التغييرية وفق قوانين السببية، ثم يعمل هذا الحزب في المجتمع بشكل صحيح فينتج عن عمله هذا تفعيل العلاقة السببية، فيتقصد المجتمع ليغيره بمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات، ويتقصد مقومات الدولة، ويصمم مخطط التغيير الهندسي تصميما ذكيا، ويفعل العلاقات والأنظمة السببية فينتج المسبب حتما وهو حدوث التغيير وإقامة الدولة!
- ثم تقوم الدولة!
[1] جواب سؤال عن الغيبيات والأسباب والمسببات 1974 تقي الدين النبهاني.
[2] مقدمة الدستور، أو الأسباب الموجبة له، أحكام عامة.
[3] انظر مجموعة النشرات التكتلية، ص 137 بتصرف.