الخلافة وحي من الواحد الديان.. وليس نتاج العقول والأذهان
يعيش المسلمون اليوم وضعاً استثنائيا، وواقعاً غير طبيعي، فحياتهم، ونمط عيشهم، متمثل في أنظمة، تطبقها دول ذات حدود يطلق عليها أوطان، ولكل منها خرقة قماش ملونة تسمى علماً، يرمز لذلك القطر. إن هذه الأنظمة وهذه السياسات التي يعيش في كنفها المسلمون اليوم، لم تكن وليدة لاجتهاد مجتهدين على أساس الإسلام، بل يعلم القاصي والداني والجاهل قبل العالم، أن هذه الحدود رسمها الاستعمار، وأن هذه الأنظمة والقوانين والدساتير التي تسير حياة الأمة اليوم ويطبقها عليهم حفنة من حكام، سلبوا الأمة سلطانها، وحكموها بالحديد والنار، أنها أنظمة أورثها الاستعمار الغربي الذي سلب الأمة حقها في أن تحتكم لدينها وغير مناهج تعليمها وحشر ثقافته في كل ركن من حياة الأمة الإسلامية. إذن نستطيع القول بأن الأنظمة والقوانين والدساتير التي تسير حياة الناس اليوم في البلاد الإسلامية هي مفروضة عليهم فرضاً، وليست من صميم عقيدتهم، أو منبثقة عنها، فلا يقال لا بد أن نتعايش مع الواقع ونواكب العصر، لأن هذه هي الأنظمة العصرية الحديثة، ولا بد للإسلام أن يواكبها، ولا بد للمسلمين أن يجتهدوا فيستنبطوا لنا أحكاما وأنظمة تلائم الواقع، لا يقال ذلك وإذا حصل هذا يوصف بالانهزامية التي لا تؤمن بحقيقة أن الإسلام جاء من خارج الواقع ليعالجه، بل يحاولون أن يطبلوا لحكام اليوم الذين قبلوا أن يكونوا من ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾.
كما لم تكن ما تسمى بالأوطان اليوم هي نتيجة لإشارات أو دلالات دلت عليها نصوص القرآن أو السنة، بل هي كما هو معروف نتيجة لاتفاقية سايكس بيكو التي فرقت الأمة وقسمتها إلى مزق هزيلة، ورسمت بينهم حدوداً كرتونية بغيضة، كما لا توجد أية إشارة في الإسلام تشجع أو تؤيد مفهوم الوطنية، بل على العكس فقد جاءت النصوص لتذم هذ التفرقة وتحرم على المسلمين أن يكونوا في دول وكيانات متعددة. بل أوجبت عليهم العيش في دولة واحدة تحت أمير واحد، كما نجد أن الإسلام شدد في أمر قتل النفس في موضع واحد ألا وهو الذي يريد أن يشق عصا المسلمين «إِذَا كُنْتُمْ عَلَى جَمَاعَةٍ، فجَاءَ مَنْ يُفَرِّقُ جَمَاعَتَكُمْ وَيَشُقُّ عَصَاكُمْ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ».
هل بعد هذا يمكن لأحد مؤمن أن يقول لا بد من إيمان الأفراد بضرورة الأوطان والمحافظة عليها بالنفس والنفيس، تماشيا ومراعاة للواقع، بل وبكل جرأة على الله نسميه فقه المآلات؟! فكيف نرضى ما فرضه علينا الاستعمار بحجة تعسر تطبيق الواجب والفرض ونسمي هذه الأنظمة الكفرية الوضعية بأنها ميسورة، في الوقت الذي نصف الإسلام وتطبيق شرعه الحنيف بأنه عسير، كيف يكون الكفر الصراح ميسوراً في بلاد المسلمين، والإسلام الذي أكمله لنا سبحانه وتعالى، ورضيه لنا ديناً، يُخيّل إلى بعضنا أنه مستحيل التطبيق؟!
إن الله قد أكرمنا بهذا الدين، فيسره لنا فآمن به الأولون، وطبقوه كاملاً في دولة واحدة، عزت بها الأمة، فكانت خير أمة أخرجت للناس، أمة جهاد، فتحت البلاد، وحكمتها بمنهج الله تعالى حتى غدا الإسلام مطبقا في شتى أنحاء الأرض، واليوم الأمة الإسلامية تعيش حياة غير عادية، يتحكم بها أعداء الإسلام، وأصبح المسلمون مضطهدين في كل مكان، فكيف السبيل إلى الخلاص، وكيف السبيل إلى النهضة؟ نعم، لن يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وكما قال رسول الله ﷺ: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي». فإنقاذ الأمة لا يكون إلا بالإسلام وعلى أساسه، ولا يكون بصياغة مشاريع وبدائل، ملائمة لمقتضيات العصر، بل الواجب هو اتباع الوحي المبين، وأن نسير بمنهج رسول الله ﷺ ونلتزم طريقته، فنحن أعزاء بديننا، أذلاء بغيره، ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾. فطريقة الرسول ﷺ ليست شعارات وهمية، ولا هي اعتقاداً بنماذج افتراضية، بل هو واضح المعالم، مبني على وحي ربنا بنصوص شرعية واجبة الاتباع، فواجبنا اليوم يتمثل في فهم صحيح للإسلام، ورسم تصور واضح مبني على عقيدة الإسلام، ثم تكوين حزب كما كونه رسول الله ﷺ وثقفه بالإسلام في دار الأرقم بن الأرقم، ثم التفاعل مع الناس، حتى نوجد لمشروعنا رأياً عاماً، ثم طلب النصرة من أهلها كما طلبها النبي الكريم ﷺ وأقام دولة في المدينة المنورة، طبقت الإسلام وحملته إلى العالم، هذه هي الطريقة الوحيدة، لأنها فعل رسول الله ﷺ، ووحي من عند الله سبحانه، وإقامة دولة على أساس هذا الوحي، هذا هو الواجب الذي يجب أن يسير عليه المسلمون اليوم، لتحقيق الفرض العظيم، الذي تقام به الحدود، وتنفذ به الفروض، ألا وهي دولة الإسلام والمسلمين، دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فلا يكون خلاصنا إلا بها، وبها تتوحد بلادنا، وبها نحمي بيضة الإسلام والمسلمين، وهو السبيل الواجب الاتباع، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾.
إن مصطلح الخلافة ليس من (خَلَفَ يَخْلُفُ)، بل تسمية رسول الله ﷺ عندما قال: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ تَكْثُرُ» قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» إشارة واضحة بأن دولة المسلمين هي الخلافة، فليست هي حلماً يداعب الأذهان ولا تاريخاً نحكيه للأجيال، بل الخلافة هي الفرض والوعد والبشرى، وكائنة إن شاء الله، كما أن للخلافة رجالاً عرفوا الدرب فساروا ولم يتنكبوا الطريق، وهم رجال عاهدوا الله ورسوله ﷺ، أن يبذلوا الغالي والنفيس من أجل إحقاق الحق وإعزاز الدين، رجال آمنوا بقضيتهم، واتخذوا حيالها إجراء الحياة أو الموت، ألا وهي استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة على منهاج النبوة، واصلين ليلهم بنهارهم من أجل تحقيق وعد الله سبحانه وبشرى رسوله ﷺ، لا يضرهم من خذلهم، وقد استطاع فتية حزب التحرير أن يسيروا خطوات مع الأمة، متخذين منهج رسول الله ﷺ فكرة وطريقة، للوصول إلى غايتهم العظيمة، فسارت الأمة معهم، واحتضنتهم، ونفضت كثيراً من غبار عالق بها، حتى أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، القائمة إن شاء الله قريباً، فيفرح المؤمنون يومئذ بنصر الله ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
بقلم: سليمان الدسيس
عضو مجلس ولاية السودان