إقامة الدولة في ظل قانون السببية: عناصر القوة لدى الأمة الإسلامية، العنصر الأول: طبيعة العقيدة الإسلامية
إقامة الدولة في ظل قانون السببية
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الجزء التاسع عشر: عناصر القوة لدى الأمة الإسلامية
العنصر الأول: طبيعة العقيدة الإسلامية)
تتميز العقيدة الإسلامية بميزات أهمها: أنها تعطي التصور الصحيح والتفسير الشامل للكون والإنسان والحياة، مما يجعل المسلم مطمئنا إلى سلامة تصوره، فيدرك الحقائق الكبرى الكونية وطبيعة الارتباطات بين هذه الحقائق، من ألوهية، وعبودية، وحساب وعقاب، ويدرك دور الإنسان في الوجود، وغاية وجوده، وعلاقته بالخالق، وبالتالي يتحدد له منهج حياته، والنظام الذي يحقق هذا المنهج، ويرى أن عقيدته تتميز بأنها ربانية، ثابتة، شاملة، متوازنة، إيجابية، واقعية، قائمة على التوحيد والوحي.
وأنها عقيدة سياسية (تسوس الحياة الدنيا بالأوامر والنواهي) وروحية، (تبين له شئون الآخرة)، عقلية، تتوافق مع عقله وتعطيه الأدلة على صحتها، وتتوافق مع فطرته فتقرر ما فيه من نزعات وأشواق روحية، لذلك فهي عقيدة حية، تربط الدنيا بالآخرة، فيستصغر معها المرء التضحية بالغالي والنفيس حتى بالروح استجابة لما تتطلبه تبعات هذه العقيدة.
من هنا، فإن أمة تمتلك مثل هذه العقيدة لا يمكن أن تهزم، خصوصا وأن أعداءها قوام عقيدتهم: النفعية، والمصالح الآنية، وتركز المال بيد القلة، ولا يعيرون التصور عن الوجود إلا أقل القليل، فلا يمكنهم إذن مواجهة العقيدة بعقيدة مناهضة، ولا التصور بتصور يبطله أو يتفوق عليه، لذلك فمعركة العقيدة محسومة لصالح الأمة الإسلامية، فلا الحملات التبشيرية، ولا الحملات الصليبية، ولا حملات التغريب الحديثة التي تبغي تشويه الإسلام، ولا الغزو الفكري الحديث، والغزو الإعلامي الذي يركز على إثارة الغرائز ومحاولة تشويه الإسلام، كل ذلك لم يغن عن الغرب شيئا في ثني الأمة عن تحقيق تبعات هذه العقيدة الحية.
نعم لذلك كله أضرار جانبية ولكنها على المدى الطويل لا تثني الأمة عن اعتقاد عقيدتها، والقيام بما تتطلبه تلك العقيدة، فأثره ولا شك إلى زوال.
فالعنصر الأهم في معركتنا مع أعداء الإسلام هو هذا التصور عن الكون والإنسان والحياة، والذي أثبت على مدار التاريخ أن الأمة إذ تعرضت لحملات إثر حملات، من صليبية، إلى مغولية إلى تسلط أسر على الأمة، مثل البويهيين، والعبيديين، وغيرهم، لم يثمر إلا أن تصحو الأمة من كبوتها في كل مرة فتعود لتقتعد مقعد الريادة، بل وربما تجد أن من يهاجمها يعتقد عقيدتها ويعود مسلما كما حصل لبعض التتار.
ولتفعيل العقيدة الإسلامية في النفوس ولتفعيل الطاقة السببية في العقيدة نقول:
لا شك أن الخطأ الفادح الذي وقع فيه الكثير من المسلمين هذه الأيام، أنهم لم ينظروا لعقيدتهم على أساس أنها قاعدتهم الفكرية بما فيها من أفكار كلية عن الكون والإنسان والحياة تعرفهم بالغاية من وجودهم في الحياة وتضبط سلوكهم فيها وفق مقياس الحلال والحرام، وفق دين مكتمل خال من النقص، يصلح الزمان والمكان به، وتحدد لهم طريقة معينة في العيش، وراحوا بدلا من ذلك يأخذون أفكارا جزئية من عقائد أخرى، ليخلطوها بما لديهم من أفكار مما أنتج لديهم خليطا غير متجانس من الفكر، يتضارب أعلاه مع أسفله، مما تسبب في حالة عظيمة من الشقاء والحيرة والتخبط والجهل، ومما جعل سلوكهم غير منضبط بما آمنوا به من عقيدة انضباطا كاملا، فتسبب بفساد كثير في معاملاتهم، بحيث أصبح الربا أمرا طبيعيا، وتحكم القوانين الغربية في حياتهم أمرا لا يستدعي لدى الكثيرين إجراء الحياة أو الموت، وتحكم الكافر المستعمر في رقابهم أمرا اعتادوه فلم يجرد غالبيتهم العظمى السيف لوقف خطره، وغير ذلك من الدواهي التي نعلم.
ولعل من أخطر نتائج هذا الخلط بين الإسلام وغيره، خاصة وأن الغرب الكافر هو الذي انتصر في معركته العسكرية الحالية ضد المسلمين، هو إقامة القوانين التي تنظم العلاقات بين المسلمين على غير أساس الإسلام، أي أن الدول التي يعيش المسلمون في كنفها ليست هي الكيان التنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات المتميزة التي يحملها المسلمون المتميزون بعقيدتهم وأفكارهم عن الحياة، بل هي كيانات تنفيذية؛ إما لأفكار الفئة المتغلبة في المجتمع أقامت القوانين بما يحقق لها نهب خيرات الأمة واستباحة بيضتها وإبقاءها خاضعة لنفوذ الغرب الكافر يقتل رجالها ويستضعف نساءها ويغير عقيدة أطفالها، بثمن بخس كراسي مهترئة،
أو كيانات تنفيذية لأفكار مستوردة بينها وبين الإسلام ما بين الأرض والثريا، مما يجعل المسلم في غربة دائمة في مكان عيشه، وفي صراع دائم بين ما يراه حقا وما يفرض عليه في علاقات المجتمع فرضا بقوة الشرطي، مما جعل علاقته مع هذا الكيان التنفيذي الذي من المفترض أن يحقق له السعادة بحراسة تنفيذ أفكاره عن الحياة، أقول: جعل علاقته بهذا الكيان علاقة العداء والكيد له، فالنظام يكيد للناس والناس تتمنى الخلاص من هذه الأنظمة المأجورة المارقة.
هذا هو مكمن الداء، وأما الدواء فهو بانبثاق مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات اللازمة لإقامة الدولة من هذه العقيدة، ثم بانصهار الأمة قاطبة مع أفكارها التي اعتنقتها عن الحياة، أفكارها التي شكلت لها عقيدتها الإسلامية الصرفة الخالصة من كل شائبة، تلك الأفكار الكلية التي تشكل لديها الأساس الذي تقيس عليه كل فكر، وتضبط به كل سلوك،
تنصهر الأمة مع هذه الأفكار انصهارا بحيث لا تتصرف أي تصرف إلا وفق مقياس الحلال والحرام، ولا تحمل أي فكر إلا بعد أن تتأكد من انبثاقه من هذه العقيدة.
لا شك أن حجر الزاوية في إعادة استئناف الحياة الإسلامية، أن تقوم الأمة الإسلامية بتحديد وجهة نظرها في الحياة، والتي ستحدد لها طريقتها في العيش، وذلك بدراسة العقيدة الإسلامية دراسة سياسية، بحيث تدرك أن هذه العقيدة عقيدة سياسية، تعالج كل مشاكل الحياة بحلول شرعها الله سبحانه عن طريق الوحي، وعقيدة روحية تربط الإنسان بالحياة الآخرة وتجعل سعادته تتحقق بنوال رضوان الله سبحانه وتعالى، وبالتالي تكف الأمة عن أخذ حلول جزئية ترقيعية من الغير بحجة توافقها أو عدم مخالفتها للإسلام، فالإسلام ليس بحاجة لقطع غيار تؤخذ من غيره، ولا يمكن لأية فكرة أن تكون متوافقة مع الإسلام أو غير متعارضة معه إذا ما كانت منبثقة عن غيره لأن أساس أفكار الإسلام الأخذ من الوحي وإفراد الله سبحانه بحق التشريع ووضع الحلول لمشاكل الإنسان في الحياة.
ومن ثم أن تقوم الأمة بفرض هذه الأفكار في واقعها من خلال الدولة التي تنفذ هذه الأفكار في واقع الحياة ليعيش المسلمون حياة إسلامية ترضي ساكن الأرض ويرضى عنها رب العالمين. ولا شك أن هذا كله يتم بالعمل الحزبي المنظم الذي يبين للأمة عقيدتها، وفساد العقائد والأفكار الأخرى، بالإضافة إلى جهود العلماء والدعاة، والكتب.