إقامة الدولة في ظل قانون السببية: أمثلة تطبيقية على السنن الإلهية والسنن التاريخية
إقامة الدولة في ظل قانون السببية
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الجزء الثالث والعشرون: أمثلة تطبيقية على السنن الإلهية والسنن التاريخية)
أما السنن الإلهية، فعلى سبيل المثال:
﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾
سنة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، فلها أسباب ينبغي القيام بها لاستحقاق تنزل النصر، فإن كان الاستنصار في شأن الحرب والقتال، فالأسباب تقتضي أنه حين يتوجب الجهاد يجب القتال والأخذ بعدته وأسبابه، ثم بعد الأخذ بالأسباب نستنصر الله تعالى، وندعوه، وقد رأينا أن سنة الله تعالى في النصر للمؤمنين لا تقتضي كثرة العدد والعدة، فقد أرسل الرسول rجيشا لمؤتة لا يعد شيئا أمام جيش العدو عدة وعددا، ورسول الله rخير من يأخذ بالأسباب ويعلمها على حقيقتها! ولكن الإعداد الحقيقي كان بمزج القوة المادية (حتى وإن قلّت) بالعقيدة وما فيها من طاقات فكرية قادرة على سحق القوة المادية عند العدو، والإعداد المادي والمالي، ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ والأخذ بأسباب أخرى ستأتي بعد قليل بإذن الله، وقد تكررت هذه السنة كثيرا في بدر ولقاء طالوت وجالوت، وغيرها، وبالثبات والصبر، وحسن اتباع رأي القيادة، والثقة بوعد الله، والتقوى، ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ فهذه بعض دعائم وأسس سنة النصر في المعارك والتي لا بد منها لتحقق النصر (لاحظ في قصة طالوت أن الله تعالى ذكر أنه أوتي بسطة في العلم، وقد تجلت تلك في مواطن: أولا: اختبار الطاعة، ورفضه اصطحاب من شرب مخالفا عن أمره، فالعبرة ليست بالكم، ثم الثقة بالله والاستنصار به تجلت في ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ﴾ والصبر والثبات تجلى في ﴿وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ والثبات في قوله تعالى: ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ وقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]. ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ فهذه دعائم تستجلب السنة الإلهية بنصر المؤمنين!
قال الأستاذ بلال فتحي سليم في كتابه: النصر سببه الإعداد: “ورد في النشرة المؤرخة بتاريخ 10/1/1970م بذلك في قوله: (فحصول النصر بالفعل لا يمكن أن يتأتى إلا من الإعداد، فيكون حصول النصر سببه الإعداد، فكان من قبيل ربط الأسباب بالمسببات، وعلى ذلك فإن طلب المسلمين حصول النصر بالفعل دون أن يقوموا بالإعداد له مخالف للشرع ومخالف لقاعدة الأخذ بالأسباب، ومخالف لما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام ـ…)[1].
فهو قد صرح بأن النصر لا يحصل بالفعل إلا من الإعداد، وصرح بأن طلب المسلمين حصول النصر بالفعل دون الإعداد له مخالف للشرع ومخالف لقاعدة الأخذ بالأسباب ومخالف لما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله: (مخالف لقاعدة الأخذ بالأسباب) نص صريح على قصده الأسباب العقلية، وقوله: (مخالف لما كان عليه الرسول) يؤكد قوله في موضوع آخر من النشرات الفكرية: (وما روي عنه قط
أنه توسل [توصل] للنصر ولا في معركة من المعارك دون إعداد…) ص 96
دلت النصوص الشرعية القطعية على أن النصر من عند الله، وأنه هو الناصر للمؤمنين وغيرهم ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ [آل عمران والأنفال]؛ والمشاهد المحسوس أن الإعداد سبب للنصر، ولا داعي للتمثيل بحروب ومعارك، لأن هذا هو الأغلب الأعم، ولكن ما بال النصر يحجب عمن أعدّ – وأظن هذا مختصاً بالمؤمنين دون غيرهم -؟!
والجواب عن ذلك الآيات التي اشترطت على المؤمنين شروطاً أخرى زائدة عن كونهم أعدّوا، قال تعالى: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِيْ سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾… ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ…﴾ [الصف: 11- 13]، فاشترطت الآية: أ – الإيمان بالله ب – الإيمان بالرسول جـ – الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.
ولما كان فريقان كافران يقتتلان وينتصر أحدهما دون وجود أي من هذه الشروط دل ذلك على أن النصر الذي يعطيه الله للمؤمنين لا بد له من شروط وهي المذكورة أعلاه وغيرها كما سيظهر في آيات أخرى.
وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا…﴾، ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فالمنصور في الآيتين من اتصف بصفة الإيمان، وكذلك الرسل، واشترط الصبر أيضاً في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾.
واشترط سبحانه وتعالى نصرة الله أي نصرة المؤمنين لله حتى ينصرهم ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾، ومدح الله المؤمنين بأنهم ينصرون الله ورسوله في آية أخرى، واشترط سبحانه وتعالى التوكل، وهو مفهوم من غزوة حنين ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً﴾ [التوبة: 25]، فالإعجاب بالكثرة ينافي التوكل. فالنصر في أول غزوة حنين حجب عن المسلمين لأنهم أعجبوا بكثرتهم، والكثرة ليست دائماً سبب النصر وهذا سيبحث في بحث الإعداد إن شاء الله.
أما غير المؤمنين فلم يشترط عليهم سبحانه وتعالى هذه الشروط حتى ينصرهم، وبقيت السنة الكونية في حقهم كما هي: أن الأكثر إعداداً هو الأحق بالنصر (هي الإعداد)، وهذا هو الواقع المحسوس، أما نصر المؤمنين فإن الشرع زاد إلى الإعداد (الذي هو سبب) شروطاً اشترط وجودها حتى يوجد النصر لهم، وهي: الإيمان بالله ورسوله، والتوكل على الله، ونصرتهم لله والجهاد والصبر… والذي يوضح ذلك أكثر هو أن نصر المؤمنين يختلف عن نصر غيرهم من جهة أن إعدادهم في الغالب أقل من إعداد الكفار ومع ذلك ينتصر المؤمنون، مما يدل على أن نصر المؤمنين يختلف عن نصر الكفار، ولعله من هذا القبيل زيدت الشروط عليهم[2].
وأما إن كان النصر على صعيد إقامة الدولة وتمكين الدين ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ فبالتزام الحكم الشرعي، واجتياز اختبار الابتلاءات والمحن، والصبر على حمل الدعوة، واقتران الإيمان بالعمل، فاعتماد المسلم على وعد الله وعدم قيامه بالعمل، هو عصيان لله وليس نصرا له.
قال حزب التحرير في نشرة له: “أما الجانب العقائدي، فإننا نؤمن يقيناً أن الله ناصرنا وهذا الإيمان جزء لا يتجزأ من عقيدتنا، لقوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ وقوله: ﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ إلا أن الجانب العقائدي ليس سوى دافع ذاتي ومعين لا ينضب لشحذ الهمم، وتقوية النفوس، فيندفع الشاب في العمل وهو موقن أن الله ناصره ومؤيده، يعمل ضمن قوانين ويربط الأسباب بالمسببات، غير متواكل على هذا الإيمان لأنه كما آمنا به تعالى وجب أن نؤمن بأن له قوانين تسير الحياة. فتسير تبعاً لقوانينه، ووفقاً لما أمرنا به.
يا شـباب الحـزب إن ما نعـانيـه أمـران:
– تقوية الفكرة في نفوسكم والعمل على إيجادها في الأمة بل وبناء الأمة على أساسها.
– تقوية الحزب.
أما الدولة فهي آتية لا محالة، طال الطريق أم قصر. وهي ليست بهمتكم، ولا عملكم المباشر. وإن كان عملكم يسهل إيجادها. أما عملكم المباشر فهو مقتصر على إيجاد الفكرة في الأمة وتقوية الحزب”[3]
وسنة التدافع والقذف بالحق دائما على الباطل ليدمغه فإذا هو زاهق، فليس بين الحق والباطل إلا الصراع، وغير المسلمين صراعهم مادي بحت وسلطانهم سلطان مادي في حين إن صراع الإسلام معهم صراع فكري أداته المادة وسلطانه سلطان قائم على الفكر، وهذا هو السبب في أن المسلمين كانوا دائما يكسبون الحروب ولو خسروا العديد من المعارك، وبالاستنصار بالله تعالى بعد نصره، والأخذ بالأسباب التي بينتها السنن الإلهية للتغيير من خلال سرد عمل الأنبياء في مجتمعاتهم في القرآن الكريم، ودراسة تلك السنن، وأما السنن التاريخية، فلأنه حين إقامة أي دولة، سواء الإسلامية أو غيرها فإنه لا بد أيضا من مراعاة سنن ونواميس تغيير الدول بتغيير المفاهيم والمقاييس والقناعات لدى مجموع الناس أولا، ثم أخذ أهل القوة بجانب فكرة التغيير.
[1] ص97 ملف النشرات الفكرية
[2] النصر سببه الإعداد لبلال فتحي سليم
[3] نشرة غير مؤرخة في مجموعة النشرات التكتلية