الخليفة
|
أولاً: الخـليـفـة
|
الخليفة هو الذي ينوب عن الأُمة في الحكم والسلطان، وفي تنفيذ أحكام الشرع. ذلك أن الإسلام قد جعل الحكم والسلطان للأُمة، تُنيب فيه من يقوم به نيابة عنها. وقد أوجب الله عليها تنفيذ أحكام الشرع جميعها. |
أما اللقب الذي يطلق عليه فهو لقب الخليفة، أو الإمام، أو أمير المؤمنين. وقد وردت هذه الألقاب في الأحاديث الصحيحة، وإجماع الصحابة، كما لُقّب بها الخلفاء الراشدون. وقد روى أبو سعيد الخدري عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بُويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه… الحديث» رواه مسلم. وعن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم» رواه مسلم. ففي هذه الأحاديث ذكر لقب الحاكم الذي يقيم أحكام الشرع في الإسلام وهو: الخليفة أو الإمام. وأما لقب أمير المؤمنين، فأصح ما ورد فيه حديث ابن شهاب الزهري عند الحاكم في المستدرك، وصححه الذهبي، وأخرجه الطبراني، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح، ولفظه عند الحاكم “عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز سأل أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة… كان يُكتب: من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم كان عمر يَـكتب أولاً: من خليفة أبي بكر، فمن أول من كتب من أمير المؤمنين؟ فقال: حدثتني الشفاء، وكانت من المهاجرات الأول، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عامل العراق، بأن يبعث إليه رجلين جلدين يسألهما عن العراق وأهله، فبعث عامل العراق بلبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم، فلما قدما المدينة أناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثم دخلا المسجد، فإذا هما بعمرو بن العاص، فقالا: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين، فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، هو الأمير ونحن المؤمنون، فوثب عمرو فدخل على عمر أمير المؤمنين فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا ابن العاص؟ ربي يعلم لتخرجن مما قلت، قال: إن لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم قدما فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثم دخلا علي فقالا لي: استأذن لنا يا عمرو على أمير المؤمنين، فهما والله أصابا اسمك، نحن المؤمنون وأنت أميرنا. قال: فمضى به الكتاب من يومئذ. وكانت الشفاء جدة أبي بكر بن سليمان”. ثم استمر إطلاقه على الخلفاء من بعده زمن الصحابة ومن بعدهم.
يجب أن تتوفر في الخليفة سبعة شروط حتى يكون أهلاً للخـلافة، وحتى تنعقد البيعة له بالخـلافة. وهذه الشروط السبعة شروط انعقاد، إذا نقص شرط منها لم تنعقد الخـلافة. شروط الانعقاد وهي: وأيضاً فإن الخليفة هو وليّ الأمر، والله سبحانه وتعالى قد اشترط أن يكون وليّ أمر المسلمين مسلماً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ }[059:004] وقال:{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ}[083:004] ولم ترد في القرآن كلمة (أولي الأمر) إلا مقرونة بأن يكونوا من المسلمين، فدلّ على أن وليّ الأمر يشترط فيه أن يكون مسلماً. ولما كان الخليفة هو ولي الأمر، وهو الذي يُعيّن أولي الأمر من المعاونين والولاة والعمال، فإنه يشترط فيه أن يكون مسلماً. ثانياً: أن يكون ذكراً. فلا يجوز أن يكون الخليفة أنثى، أي لا بد أن يكون رجلاً، فلا يصح أن يكون امرأة. لما روى البخاري عن أبي بَكْرَة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولّوْا أمرهم امرأة». فإخبار الرسول بنفي الفلاح عمن يولون أمرهم امرأة هو نهي عن توليتها، إذ هو من صيغ الطلب، وكون هذا الإخبار جاء إخباراً بالذم لمن يولون أمرهم امرأة بنفي الفلاح عنهم، فإنه يكون قرينة على النهي الجازم، فيكون النهي هنا عن تولية المرأة قد جاء مقروناً بقرينة تدل على طلب الترك طلباً جازماً، فكانت تولية المرأة حراماً. والمراد توليتها الحكم: الخـلافة وما دونها من المناصب التي تعتبر من الحكم؛ لأن موضوع الحديث ولاية بنت كسرى مُلكاً، فهو خاص بموضوع الحكم الذي جرى عليه الحديث، وليس خاصاً بحادثة ولاية بنت كسرى وحدها، كما أنه ليس عاماً في كل شيء، فلا يشمل غير موضوع الحكم، فهو لا يشمل القضاء، ولا مجلس الشورى والمحاسبة، ولا انتخاب الحاكم، بل كل هذا يجوز لها على الوجه المبين لاحقاً. ثالثاً: أن يكون بالغاً. فلا يجوز أن يكون صبياً، لما روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يبرأ». وله رواية أخرى بلفظ: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم»، ومن رفع القلم عنه لا يصح أن يتصرف في أمره، وهو غير مكلف شرعاً، فلا يصح أن يكون خليفة، أو ما دون ذلك من الحكم، لأنه لا يملك التصرفات. والدليل أيضاً على عدم جواز كون الخليفة صبياً ما روى البخاري: «عن أبي عقيل زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت به أمـه زينب بنت حميد إلى رسـول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسـول الله، بايعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو صغير. فمسح رأسه ودعا له…». فإذا كانت بيعة الصبي غير معتبرة، وأنه ليس عليه أن يبايع غيره خليفة، فمن باب أولى أنه لا يجوز أن يكون خليفة. رابعاً: أن يكون عاقلاً. فلا يصح أن يكون مجنوناً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُفع القلم عن ثلاثة»، وذكر منها: «المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق». ومن رُفع عنه القلم فهو غير مكلف؛ لأن العقل مناط التكليف، وشرط لصحة التصرفات. والخليفة إنما يقوم بتصرفات الحكم، وبتنفيذ التكاليف الشرعية، فلا يصح أن يكون مجنوناً؛ لأن المجنون لا يصح أن يتصرف في أمر نفسه، ومن باب أولى لا يصح أن يتصرف في أمور الناس. خامساً: أن يكون عدلاً. فلا يصح أن يكون فاسقاً. والعدالة شرط لازم لانعقاد الخـلافة ولاستمرارها؛ لأن الله تعالى اشترط في الشاهد أن يكون عدلاً. قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[002:064] فالذي هو أعظم من الشاهد، وهو الخليفة، من باب أولى أنه يلزم أن يكون عدلاً؛ لأنه إذا شرطت العدالة للشاهد، فشرطها للخليفة من باب أولى. سادساً: أن يكون حراً. لأن العبد مملوك لسيده فلا يملك التصرف بنفسـه. ومن باب أولى أن لا يملك التصـرف بغيره، فلا يملك الولاية على الناس. سابعاً: أن يكون قادراً. من أهل الكفاية على القيام بأعباء الخـلافة؛ لأن ذلك من مقتضى البيعة، إذ إن العاجز لا يقدر على القيام بشؤون الرعية بالكتاب والسنة اللذين بويع عليهما. ولمحكمة المظالم تقرير (صنوف العجز) التي يجب أن لا تكون في الخليفة لكي يكون قادراً من أهل الكفاية. شروط الأفضلية
حين أوجب الشرع على الأُمة نصب خليفة عليها، حدد لها الطريقة التي يجري بها نصب الخليفة، وهذه الطريقة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة. وتلك الطريقة هي البيعة. فيجري نصب الخليفة ببيعة المسلمين له على العمل بكتاب الله وسنة رسوله. والمقصود بالمسلمين هم الرعايا المسلمون للخليفة السابق إن كانت الخـلافة قائمةً، أو مسلمو أهل القطر الذي تقام الخـلافة فيه إن لَم تكن الخـلافة قائمةً. أما كون هذه الطريقة هي البيعة فهي ثابتة من بيعة المسلمين للرسول، ومن أمر الرسول لنا ببيعة الإمام. أما بيعة المسلمين للرسول، فإنها ليست بيعة على النبوة، وإنما هي بيعة على الحكم، إذ هي بيعة على العمل، وليست بيعة على التصديق. فبُويع صلى الله عليه وسلم على اعتباره حاكماً، لا على اعتباره نبياً ورسولاً؛ لأن الإقرار بالنبوة والرسالة إيمان وليس بيعة، فلم تبق إلا أن تكون البيعة له باعتباره رئيس الدولة. وقد وردت البيـعـة في القرآن والحديث. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ}[012:060]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}[010:048]. وروى البخاري قال: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك عن يحيى بن سعيد قال: أخبرني عُبادة ابن الوليد، أخبرني أبي عن عُبادة بن الصامت قال: «بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم». وفي مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «… ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر». وفي مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم». فالنصوص صريحة من الكتاب والسنة بأن طريقة نصب الخليفة هي البيعة. وقد فَهِم ذلك جميع الصحابة، وساروا عليه، وبيعة الخلفاء الراشدين واضحة في ذلك.
إن الإجراءات العملية، التي تتم بها عملية تنصيب الخليفة، قبل أن يُبايَع، يجوز أن تأخذ أشكالاً مختلفة، كما حصل مع الخلفاء الراشدين، الذين جاءوا عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، رضوان الله عليهم، وقد سكت عنها جميع الصحابة، وأقروها، مع أنها مما ينكر لو كانت مخالفة للشرع؛ لأنها تتعلق بأهم شيء يتوقف عليه كيان المسلمين، وبقاء الحكم بالإسلام. ومن تَتَبُّع ما حصل في نصب هؤلاء الخلفاء، نجد أن بعض المسلمين قد تناقشوا في سقيفة بني ساعدة، وكان المرشحون سعداً، وأبا عبيدة، وعمر، وأبا بكر، إلا أن عمر وأبا عبيدة لَم يرضيا أن يكونا منافسين لأبي بكر، فَكَأَنَّ الأمر كان بين أبي بكر وسعد بن عبادة ليس غير، وبنتيجة المناقشة بُويِع أبو بكر. ثم في اليوم الثاني دعي المسلمون إلى المسجد فبايعوه، فكانت بيعة السقيفة بيعة انعقاد، صار بها خليفة للمسلمين، وكانت بيعة المسجد في اليوم الثاني بيعة طاعة. وحين أحس أبو بكر بأن مرضه مرض موت، وبخاصة وأن جيوش المسلمين كانت في قتال مع الدول الكبرى آنذاك الفرس والروم، دعا المسلمين يستشيرهم فيمن يكون خليفة للمسلمين، ومكث مدة ثلاثة أشهر في هذه الاستشارات. ولما أتمها وعرف رأي أكثر المسلمين، عهد لهم، أي (رشَّح) بلغة اليوم، ليكون عمر الخليفة بعده، ولم يكن هذا العهد أو الترشيح عقداً لعمر بالخلافة من بعده؛ لأن المسلمين بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه حضروا إلى المسجد، وبايعوا عمر بالخـلافة، فصار بهذه البيعة خليفة للمسلمين، وليس بالاستشارات، ولا بـعهد أبي بكر؛ لأن ترشيحه من أبي بكر لو كان عقداً للخلافة لعمر لما احتاج إلى بيعة المسلمين، هذا فضلاً عن النصوص التي ذكرناها سابقاً التي تدل صراحة على أنه لا يصبح أحد خليفة إلا بالبيعة من المسلمين. وحين طُعن عمر، طلب منه المسلمون أن يستخلف فأبى، فألحوا عليه فجعلها في ستة، أي (رشَّح) لهم ستة، ثم عيّن صهيباً ليصلي بالناس، وليقوم على من رشحهم عمر حتى يختاروا من بينهم الخليفة خلال الأيام الثلاثة التي عينها لهم، وقد قال لصهيب: «… فإن اجتمع خمسة، ورضوا رجلاً، وأبى واحد، فاشدخ رأسه بالسيف…» كما نقل ذلك الطبري في تاريخه، وابن قتيبة صاحب كتاب الإمامة والسياسة المعروف بتاريخ الخلفاء، وابن سعد في الطبقات الكبرى ثم عيّن أبا طلحة الأنصاري مع خمسين رجلاً لحراستهم، وكلَّف المقداد بن الأسود أن يختار للمرشحين مكان اجتماعهم، ثم بعد وفاته رضي الله عنه، وبعد أن استقر المجلس بالمرشحين، قال عبد الرحمن بن عوف: أيكم يخرج منه نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم فسكت الجميع، فقال عبد الرحمن أنا أخلع نفسي ثم أخذ يستشيرهم واحداً واحداً يسألهم أنه لو صرف النظر عنه من كان يرى فيهم أحق بها، فكان جوابهم محصوراً في اثنين: علي وعثمان. بعد ذلك رجع عبد الرحمن لرأي المسلمين يسألهم أي الاثنين يريدون: يسأل الرجال والنساء، يستطلع رأي الناس، ولَم يكن رضي الله عنه يعمل في النهار فحسب بل في الليل كذلك. أخرج البخاري من طريق المِسْوَر بن مخرمة قال: (طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم) أي ثلاث ليال. فلما صلى الناس الصبح تمت بيعة عثمان. فصار خليفة ببيعة المسلمين، لا بجعلها عمر في ستة. ثم قُتل عثمان، فبايع جمهرةُ المسلمين في المدينة والكوفة عليّ بن أبي طالب، فصار خليفة ببيعة المسلمين. وبالتدقيق في كيفية مبايعتهم، رضوان الله عليهم، يتبين أن المرشَّحين للخـلافة كانوا يُعلَنون للناس، وأن شروط الانعقاد تتوفر في كلٍّ منهم، ثم يؤخذ رأي أهل الحل والعقد من المسلمين، الممثلين للأمة، وكان الممثِّلون معروفين في عصر الخلفاء الراشدين، حيث هم كانوا الصحابة، رضوان الله عليهم، أو أهل المدينة. ومَنْ كان الصحابة أو أكثريتهم يريدونه بويع بيعة الانعقاد، وأصبح الخليفة، ووجبت له الطاعة، فيبايعه المسلمون بيعة الطاعة. وهكذا يوجد الخليفة، ويصبح نائباً عن الأمة في الحكم والسلطان. هذا ما يفهم مما حصل في بيعة الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، وهناك أمران آخران يفهمان من ترشيح عمر للستة وإجراءات بيعة عثمان رضي الله عنه، وهما: وجود الأمير المؤقت الذي يتولى فترة تنصيب الخليفة الجديد، وحصر المرشحين بستة كحدٍ أقصى.
للخليفة، عندما يشعر بدنو أجله قبيل خلو منصب الخلافة بفترة مناسبة، أن يعيِّن أميراً مؤقتاً لتولي أمر المسلمين خلال فترة إجراءات تنصيب الخليفة الجديد، ويباشر عمله بعد وفاة الخليفة، ويكون عمله الأساس هو الفراغ من تنصيب الخليفة الجديد خلال ثلاثة أيام. ولا يجوز للأمير المؤقت أن يتبنى الأحكام؛ لأن هذه من صلاحية الخليفة الذي تبايعه الأمة. وكذلك ليس له أن يترشح للخلافة أو يسند المرشحين؛ لأن عمر رضي الله عنه عيّنه من غير من رشحهم للخلافة. وتنتهي ولاية هذا الأمير بتنصيب الخليفة الجديد؛ لأن مهمته مؤقتة بهذه المهمة. والدليل على أن صهيباً كان أميراً مؤقتاً عيَّنه عمر رضي الله عنه هو: وقد تم هذا الأمر على ملأ من الصحابة دون منكر؛ فكان إجماعاً بأن للخليفة أن يعين أميراً مؤقتاً يتولى إجراءات تنصيب الخليفة الجديد. كما أنه يجوز بناءً على هذا أن يتبنى الخليفة مادة خلال حياته، تنص على أن الخليفة، إذا توفي ولم يعين أميراً مؤقتاً لإجراءات تنصيب الخليفة الجديد، أن يكون أحد الأشخاص أميراً مؤقتاً. ونحن نتبنى هنا أن يكون الأمير المؤقت، إن لم يعينه الخليفة في مرض موته، يكون أكبر المعاونين سناً، إلا إذا ترشح فيكون التالي له عُمْراً من المعاونين، وهكذا، ثم يتلوهم وزراء التنفيذ بالكيفية السابقة. وينطـبـق هـذا في حـالـة عزل الخليفة، فإنَّ الأمير المؤقت يكون أكبر المعاونين سناً إن لم يترشح، فإن ترشح فمن يليه إلى أن يفرغوا، ثم أكبر وزراء التنفيذ سناً، وهكذا. فإن أرادوا الترشيح كلهم فيلزم الأصغر من وزراء التنفيذ بالإمارة المؤقتة. وينطبق هذا كذلك في حالة وقوع الخليفة في الأسر مع بعض التفاصيل المتعلقة بصلاحيات الأمير المؤقت عند كون الخليفة مأمول الخلاص وعند كونه غير مأمول الخلاص. وسينظم هذه الصلاحيات قانون يصدر في حينه. وهذا الأمير يختلف عن من ينيبه الخليفة مكانه عند خروجه للجهاد أو في سفر، كما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يخرج للجهاد، أو عند حجة الوداع، أو نحو ذلك، فإن من ينيبه في هذه الحالة يكون بالصلاحيات التي يحددها الخليفة له في رعاية الشؤون التي تقتضيها تلك الإنابة.
من تتبع كيفية تنصيب الخلفاء الراشدين، يتبين أن هناك حصراً للمرشحين كان يتم، ففي سقيفة بني ساعدة كان المرشحون أبا بكر، وعمر، وأبا عبيدة، وسعد بن عبادة، واكتفي بهم، لكن عمر وأبا عبيدة لَم يكونا يعدلان بأبي بكر فلم ينافساه عليها، وأصبح الترشيح عملياً بين أبي بكر وسعد بن عبادة، ثم انتخب أهل الحل والعقد في السقيفة أبا بكر خليفةً وبايعوه بيعة الانعقاد، ثم في اليوم التالي بايع المسلمون أبا بكر في المسجد بيعة الطاعة. ورشح أبو بكر للمسلمين عمر خليفةً ولَم يكن معه مرشح آخر، ثم بايعه المسلمون بيعة الانعقاد ثم بيعة الطاعة. ورشح عمر للمسلمين ستةً وحصرها فيهم ينتخبون من بينهم خليفةً، ثم ناقش عبد الرحمن بن عوف الخمسة الباقين وحصرهم في اثنين: علي وعثمان، بعد أن وكله الباقون. وبعد ذلك استطلع رأي الناس واستقر الرأي على عثمان خليفةً. وأما علي رضي الله عنه فلم يكن معه مرشح آخر للخـلافة فبايعته جمهرة المسلمين في المدينة والكوفة وصار الخليفة الرابع. ولأن بيعة عثمان رضي الله عنه قد تحقق فيها: أقصى المدة المسموح بها لانتخاب الخليفة أي ثلاثة أيام بلياليها، وكذلك حصر المرشحين بستة، ثم من بعدُ باثنين، فإننا سنذكر كيفية حدوثها بشيء من التفصيل لفائدتها فيما نحن بصدده: 1 – توفي عمر رضي الله عنه يوم الأحد صباحاً مستهل المحرم سنة 24 هجرية على أثر طعنته من أبي لؤلؤة لعنه الله، حيث كان عمر رضي الله عنه قائماً يصلي في المحراب فجر الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة 23 هجرية. وقد صلى عليه صهيب رضي الله عنه وفق ما أوصى به عمر رضي الله عنه. 2 – فلما فرغ من شأن عمر، جمع المقداد أهل الشورى الستة الذين أوصى لهم عمر في أحد البيوت، وقام أبو طلحة بحجبهم، فجلسوا يتشاورون، ثم وكلوا عبد الرحمن بن عوف أن يختار منهم خليفةً وهم راضون. 3 – بدأ عبد الرحمن نقاشهم وسؤال كل منهم: إن لَم يكن هو الخليفة فمن يرى الخليفة من الباقين؟ وكان جوابهم لا يعدو علياً وعثمان. وبالتالي حصر عبد الرحمن الأمر باثنين من ستة. 4 – بعد ذلك أخذ عبد الرحمن يستشير الناس كما هو معروف. 5 – في ليلة الأربـعـاء أي ليلة اليوم الثالث بعد يوم وفاة عمر رضي الله عنه (الأحد)، ذهب عبد الرحمن إلى دار ابن أخته المسور بن مخرمة، وهنا أنقل من البداية والنهاية لابن كثير: وصلى صهيب بالناس الصبح وصلى الظهر من ذلك اليوم، ثم صلى عثمان رضي الله عنه بالناس العصر خليفةً للمسلمين. أي أنه على الرغم من بدء بيعة الانعقاد لعثمان رضي الله عنه عند صلاة الصبح، إلا أن إمرة صهيب لَم تنتهِ إلا بعد بيعة أهل الحل والعقد في المدينة لعثمان، وقد اكتملت قبيل العصر حيث كان الصحابة يتداعون لبيعة عثمان إلى ما بعد منتصف ذلك النهار وقبيل العصر، وقد اكتمل الأمر قبيل العصر، فانتهت إمرة صهيب وصلى عثمان بالناس العصر خليفةً لهم. ويفسر صاحب البداية والنهاية لماذا صلى صهيب بالناس الظهر علماً بان أمر البيعة لعثمان قد تم عند الفجر فيقول: (… بايعه الناس في المسجد، ثم ذُهِبَ به إلى دار الشورى «أي البيت الذي اجتمع فيه أهل الشورى» فبايعه بقية الناس، وكأنه لَم يُتم البيعة إلا بعد الظهر، وصلى صهيب يومئذٍ الظهر في المسجد النبوي، وكان أول صلاة صلاها الخليفة أمير المؤمنين عثمان بالمسلمين هي صلاة العصر…) 1 – العمل في موضوع الترشيح يكون في الليل والنهار طيلة أيام المهلة.
إذا لم يكن هنالك خليفة مطلقاً، وأصبح فرضاً على المسلمين أن يقيموا خليفة لهم؛ لتنفيذ أحكام الشرع، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، كما هي الحال منذ زوال الخـلافة الإسلامية في اسطنبول، بتاريخ الثامن والعشرين من رجب 1342هـ، الموافق 3 آذار 1924م، فإن كل قطر من الأقطار الإسلامية الموجودة في العالم الإسلامي أهل لأن يُبايع خليفة، وتنعقد به الخـلافة، فإذا بايع قطر ما من هذه الأقطار الإسلامية خليفة، وانعقدت الخـلافة له، فإنه يصبح فرضاً على المسلمين في الأقطار الأخرى أن يبايعوه بيعة طاعة، أي بيعة انقياد، بعد أن انعقدت الخـلافة له ببيعة أهل قطره، على شرط أن تتوفر في هذا القطر أربعة أمور: أحدها: أن يكون سلطان ذلك القطر سلطاناً ذاتياً، يستند إلى المسلمين وحدهم، لا إلى دولة كافرة، أو نفوذ كافر. ثانيها: أن يكون أمان المسلمين في ذلك القطر بأمان الإسلام، لا بأمان الكفر، أي أن تكون حمايته من الداخل والخارج حماية إسلام، من قوة المسلمين، باعتبارها قوة إسلامية بحتة. ثالثها: أن يبدأ حالاً بمباشرة تطبيق الإسلام كاملاً تطبيقاً انقلابياً شاملاً، وأن يكون متلبساً بحمل الدعوة الإسلامية. رابعها: أن يكون الخليفة المُبايَع مستكملاً شروط انعقاد الخـلافة، وإن لم يكن مستوفياً شروط الأفضلية؛ لأن العبرة بشروط الانعقاد. فإذا استوفى ذلك القطر هذه الأمور الأربعة، فقد وجدت الخـلافة بمبايعة ذلك القطر وحده، وانعقدت به وحده، وأصبح الخليفة الذي بايعوه انعقاداً على الوجه الصحيح هو الخليفة الشرعي، ولا تصح بيعة لسواه. فأي قطر آخر يبايِع خليفةً آخر بعد ذلك، تكون بيعتُه باطلةً ولا تصح؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «… فوا ببيعة الأول فالأول»، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإذا جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».
لقد سبق أن بيّـنّا أدلة البيعة وأنها الطريقة في الإسلام لتنصيب الخليفة. وأما كيف تكون، فإنها تكون مصافحةً بالأيدي، وقد تكون بالكتابة. فقد حدّث عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر، حيث اجتمع الناس على عبد الملك، قال: «كتب أني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على كتاب الله وسنة رسوله ما استطعت». ويصح أن تكون البيعة بأية وسيلة من الوسائل. إلا أنه يشترط في البيعة أن تصدر من البالغ، فلا تصح البيعة من الصغار. فقد حدّث أبو عقيل زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وذهبت به أُمه زينب بنت حميد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله بايعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو صغير. فمسح رأسه ودعا له» رواه البخاري. أما ألفاظ البيعة فإنها غير مقيدة بألفاظ معينة. ولكن لا بد من أن تشتمل على العمل بكتاب الله وسنة رسوله بالنسبة للخليفة، وعلى الطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره بالنسبة للذي يُعطي البيعة. ويصدر قانون بتحديد هذه الصيغة وفق المعطيات السابقة. ومتى أعطى المبايــِـع البيعة للخليفة، فقد أصبحت البيعة أمانة في عنق المبايــِـع، لا يَحِلّ له الرجوع عنها، فهي حق باعتبار انعقاد الخـلافة حتى يعطيها، فإن أعطاها أُلزِم بها. ولو أراد أن يرجع عن ذلك لا يجوز. ففي البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن أعرابياً بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فأصابه وعك فقال: «أقلني بيعتي» فأبى، ثم جاء فقال: «أقلني بيعتي» فأبى، فخرج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المدينة كالكير تنفي خَبَثَها، ويَنْصَعُ طيبُها». وعن نافع قال: قال لي عبد الله بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له» رواه مسلم. ونقضُ بيعة الخليفة خَلْعٌ لليد من طاعة الله. غير أن هذا إذا كانت بيعته للخليفة بيعة انعقاد، أو بيعة طاعة لخليفة صحَّت بيعة الانعقاد له. أما لو بايع خليفةً ابتداءً، ثم لم تتمّ البيعة له، فإن له أن يتحلل من تلك البيعة، على اعتبار أن بيعة الانعقاد لم تتم له من المسلمين. فالنهي في الحديث مُنصَبّ على الرجوع عن بيعة خليفة، لا عن بيعة رجل لم تتمّ له الخـلافة.
يجب أن يكون المسلمون جميعاً في دولة واحدة، وأن يكون لهم خليفة واحد لا غير، ويحرم شرعاً أن يكون للمسلمين في العالم أكثر من دولة واحدة، وأكثر من خليفة واحد. كما يجب أن يكون نظام الحكم في دولة الخـلافة نظام وحدة، ويحرم أن يكون نظاماً اتحادياً؛ وذلك لما روى مسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ومَنْ بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر». ولما روى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ أتاكم وأمرُكُم جميعٌ على رجل واحد، يريد أن يشقّ عصاكم، أو يُفرّق جماعتكم، فاقتلوه». ولما روى مسلم عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا بُويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». ولما روى مسلم أن أبا حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يُحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلّما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم». فالحديث الأول يبيّن أنه في حالة إعطاء الإمامة، أي الخـلافة، لواحد، وجبت طاعته، فإن جاء شخص آخر ينازعه الخـلافة، وجب قتاله وقتله إن لم يرجع عن هذه المنازعة. والحديث الثاني يبين أنه عندما يكون المسلمون جماعة واحدة، تحت إمرة خليفة واحد، وجاء شخص يشق وحدة المسلمين، ويفرق جماعتهم وجب قتله. والحديثان يدلان بمفهومهما على منع تجزئة الدولة، والحث على عدم السماح بتقسيمها، ومنع الانفصال عنها، ولو بقوة السيف. والحديث الثالث يَدلّ على أنه في حالة خلوّ الدولة من الخليفة – بموته أو عزله أو اعتزاله- ومبايعة شخصين للخلافة، يجب قتل الآخر منهما، أي يكون الخليفة هـو الذي بويع بيعةً صحيحةً أولاً، ويُقتل الذي بويع بعد ذلك إن لَم يعلن تركه للخـلافة، ومن باب أولى إذا أعطيت لأكثر من اثنين. وهذا كناية عن منع تقسـيم الدولة، ويعني تحريم جعل الدولة دولاً، بل يجب أن تبقى دولة واحدة. والحديث الرابع يدل على أن الخلفاء سيكثرون بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأن الصحابة، رضوان الله عليهم، سألوه بماذا يأمرهم عندما يكثر الخلفاء، فأجابهم بأنه يجب عليهم أن يفوا للخليفة الذي بايعوه أولاً؛ لأنه هو الخليفة الشرعي، وهو وحده الذي له الطاعة، وأما الآخرون فلا طاعة لهم؛ لأن بيعتهم باطلة، وغير شرعية؛ لأنه لا يجوز أن يُبايَع لخليفةٍ آخر مع وجود خليفة للمسلمين. وهذا الحديث كذلك يدل على وجوب أن تكون الطاعة لخليفة واحد، وبالتالي يدل على أنه لا يجوز أن يكون للمسلمين أكثر من خليفة، وأكثر من دولة واحدة.
يملك الخليفة الصلاحيات التالية: ب ) هو المـسـؤول عن سـياسـة الدولة الداخلية والخارجية معاً، وهو الذي يتولى قيادة الجيش، وله حق إعـلان الحرب، وعقد الصـلح والهدنة، وسائر المعاهدات. ج ) هو الذي له قبول السفراء الأجانب ورفضهم، وتعيين السفراء المـسـلمين وعـزلهم. د ) هو الذي يعين ويعزل المعاونين والولاة، وهم جميعاً مسؤولون أمامه، كما أنهم مسؤولون أمام مجلس الأُمة. هـ ) هو الذي يعين ويعزل قاضي القضاة، والقضاة، باستثناء قاضي المظالم فهو يعينه، وأما عزله فعليه قيود كما هو مبين في موضعه في باب القضاء، وهو الذي يعين ويعزل مديري الدوائر، وقواد الجيش ورؤساء أركانه وأمراء ألويته، وهم جميعاً مسؤولون أمامه، وليسوا مسؤولين أمام مجلس الأُمة. و ) هو الذي يتبنى الأحكام الشرعية التي توضع بموجبها ميزانية الدولة، وهو الذي يقرر فصول الميزانية، والمبالغ التي تلزم لكل جهـة، سـواء أكان ذلك متعـلقاً بالـواردات أم بالـنفـقات. وأما الأدلة التفصيلية للفقرات الست الواردة، فإن الفقرة (أ) دليلها إجماع الصحابة. وذلك أن القانون لفظ اصطلاحي، ومعناه: الأمر الذي يصدره السلطان ليسير الناس عليه، وقد عُرّف القانون بأنه (مجموع القواعد التي يُجبر السلطان الناس على اتباعها في علاقاتهم) أي إذا أمر السلطان بأحكام معينة كانت هذه الأحكام قانوناً، يلزم الناس بها، وإن لم يأمر السلطان بها لا تكون قانوناً، فلا يلزم الناس بها. والمسلمون يسيرون على أحكام الشرع، فهم يسيرون على أوامر الله ونواهيه، وليس على أوامر السلطان ونواهيه. فما يسيرون عليه أحكام شرعية، وليست أوامر السلطان. غير أن هذه الأحكام الشرعية اختلف الصحابة فيها، ففهم بعضهم من النصوص الشرعية شيئاً غير ما كان يفهمه البعض الآخر، وكان كلٌّ يسير حسب فهمه، ويكون فهمه حكم الله في حقه، ولكن هناك أحكام شرعية تقتضي رعايةُ شُؤون الأُمة أن يسير المسلمون جميعاً على رأي واحد فيها، وأن لا يسير كل بحسب اجتهاده، وقد حصل ذلك بالفعل، فقد رأى أبو بكر أن يوزع المال بين المسلمين بالتساوي؛ لأنه حقهم جميعاً بالتساوي. ورأى عمر أنه لا يصح أن يُعطى مَنْ قَاتَل رسولَ الله كمن قاتل معه، وأن يُعطى الفقير كالغني، ولكن أبا بكر كان هو الخليفة، فأمر بالعمل برأيه، أي تبني توزيع المال بالتساوي، فاتبعه المسلمون في ذلك، وسار عليه القضاة والولاة، وخضع له عمر، وعمل برأي أبي بكر ونفّذه. ولما جاء عمر خليفة تبنى رأياً يخالف رأي أبي بكر، أي أمر برأيه بتوزيع المال بالتفاضل، لا بالتساوي، فَـيُعطى حسب القدم والحاجة، فاتبعه المسلمون، وعمل به الولاة والقضاة، فكان إجماع الصحابة منعقداً على أن للإمام أن يتبنى أحكاماً معينة مأخوذةً من الشرع باجتهاد صحيح، ويأمر بالعمل بها، وعلى المسلمين طاعتها، ولو خالفت اجتهادهم، وترك العمل بآرائهم واجتهاداتهم. فكانت هذه الأحكام المتبناة هي القوانين. ومن هنا كان سَنّ القوانين للخليفة وحده، ولا يملك غَيرُه ذلك مطلقاً. وأما الفقرة (ب) فإن دليلها عمل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يُعيّن الولاة والقضاة ويحاسبهم، وهو الذي كان يراقب البيع والشراء، ويمنع الغش، وهو الذي يُوزع المال على الناس، وهو الذي كان يساعد فاقد العمل على إيجاد عمل له، وهو الذي كان يقوم بجميع شؤون الدولة الداخلية، وكذلك هو الذي كان يخاطب الملوك، وهو الذي كان يستقبل الوفود، وهو الذي كان يقوم بجميع شؤون الدولة الخارجية. وأيضاً فإنهصلى الله عليه وسلم كان يتولى قيادة الجيش فعلاً، فكان في الغزوات يتولى بنفسه قيادة المعارك، وفي السرايا كان هو الذي يبعث السرية ويعين قائدها، حتى إنه حين عين أسامة بن زيد قائداً على سرية ليرسلها إلى بلاد الشام كره ذلك الصحابة، لصغر سِنّ أسامة، ولكن الرسول أجبرهم على قبول قيادته. مما يدل على أن الخليفة هو قائد الجيش فعلاً، وليس قائداً أعلى فحسب. وأيضاً فإن الرسول هو الذي أعلن الحرب على قريش، وهو الذي أعلن الحرب على بني قريظة، وعلى بني النضير، وعلى بني قَـيْـنُقاع، وعلى خَيْبر، وعلى الروم، فكل حرب وقعت هو صلى الله عليه وسلم الذي أعلنها، مما يدل على أن إعلان الحرب إنما هو للخليفة. وأيضاً فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي عقد المعاهدات مع اليهود، وهو الذي عقد المعاهدات مع بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة، وهو الذي عقد المعاهدات مع يوحنة بن رؤبة صاحب أيلة، وهو الذي عقد معاهدة الحديبية، حتى إن المسلمين كانوا ساخطين من معاهدة الحديبية، ولكنه لم يستجب لقولهم ورفض آراءهم، وأمضى المعاهدة، مما يدل على أن للخليفة، لا لغيره، عقد المعاهدات، سواء معاهدة الصلح أم غيرها من المعاهدات. وأما الفقرة (ج) فإن دليلها أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي تلقى رسولَيْ مسيلمة الكذاب، وهو الذي تلقى أبا رافع رسولاً من قريش، وهو الذي أرسل الرسل إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، والحارث الغساني ملك الحيرة، والحارث الحميري ملك اليمن، وإلى نجاشي الحبشة، وهو الذي أرسل عثمان بن عفان في الحديبية رسولاً إلى قريش؛ مما يدل على أن الخليفة هو الذي يقبل السفراء ويرفضهم، وهو الذي يعين السفراء. وأما الفقرة (د) فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يعين الولاة، فعين معاذاً والياً على اليمن، وهو الذي كان يعزل الولاة، فعزل العلاء بن الحضرمي عن البحرين؛ لأن أهلها شكوا منه، مما يدل على أن الولاة مسؤولون أمام أهل الولاية كما هـم مسؤولون أمام الخليفة، ومسؤولون أمام مجلس الأُمة لأنه يمثل جميع الولايـات. هـذا بالنسبة للولاة. أما المعاونون، فإن الرسول كان له معاونان هما أبو بكر وعمر، ولم يعزلهما ويولِّ غيرهما طوال حياته. فهو الذي عينهما، ولكنه لم يعزلهما، غير أنه لما كان المعاون إنما أخذ السلطة من الخليفة، وهو بمثابة نائب عنه، فإنه يكون له حق عزله قياساً على الوكيل؛ لأن للموكل عزل وكيله. وأما الفقرة (هـ) فإن دليلها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قلَّد عليّاً رضي الله عنه قضاء اليمن، وروى أحمد عن عمرو بن العاص قال: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمان يختصمان فقال لعمرو: اقض بينهما يا عمرو فقال: أنت أولى بذلك مني يا رسول الله، قال: وإن كان، قال: فإذا قضيتُ بينهما فما لي؟ قال: إن أنت قضيت بينهما فأصبت القضاء فلك عشر حسنات. وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة». وقد كان عمر رضي الله عنه يولّي ويعزل الولاة والقضاة. فعيّن شريحاً قاضياً للكوفة، وأبا موسى قاضياً للبصرة، وعزل شُرَحْبيل بن حسنة عن ولايته في الشام، وولّى معاوية، فقال له شُرَحْبيل: «أَمِنْ جُبنٍ عزلتني أم خيانة؟ قال: من كل لا، ولكن أردت رجلاً أقوى من رجل». «وولى عليّ رضي الله عنه أبا الأسود، ثم عزله، فقال: لم عزلتني، وما خنت، ولا جنيت؟ فقال: إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين». وقد فعل عمر وعليّ ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة، ولم ينكر على أيّ منهما منكر. فهذا كله دليل على أن للخليفة أن يعين القضاة بوجه عام، وكذلك له أن يُنيب عنه مَنْ يُعيّن القضاة، قياساً على الوكالة، إذ له أن ينيب عنه في كل ما هو مِنْ صلاحياته، كما له أن يوكّل عنه في كل ما يجوز له من التصرفات. وأما استثناء عزل قاضي المظالم فهو في حالة نظر القاضي قضيةً مرفوعةً على الخليفة أو معاونيه أو قاضي قضاته، وذلك استناداً إلى القاعدة الشرعية «الوسيلة إلى الحرام حرام»، حيث إن جعل صلاحية عزله في هذه الحالة للخليفة يوجِد تأثيراً في حكم القاضي، وبالتالي يعطل حكماً شرعياً، وهذا حرام، ويكون وضع صلاحية عزل قاضي المظالم بيد الخليفة وسيلة إلى الحرام، وبخاصة وأنه يكفي في القاعدة هذه غلبة الظن وليس القطع؛ ولذلك تجعل صلاحية عزل قاضي المظالم في هذه الحالة لمحكمة المظالم، وفي الحالات الأخرى يبقى الحكم على أصله أي أن حق تعيينه وعزله هو للخليفة. وأما تعيين مديري الدوائر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عَـيّن كُتّاباً للإدارة في أجهزة الدولة، وكانوا بمثابة مديري الدوائر. فَعيّن المعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي على خاتمه، كما عَـيّنه على الغنائم أيضاً، وعَـيّن حذيفة بن اليمان يكتب خرص ثمار الحجاز، وعَـيّن الزبير بن العوام يكتب أموال الصدقات، وعَـيّن المغيرة بن شعبة يكتب المداينات والمعاملات، وهكذا. وأما قواد الجيش وأمراء ألويته، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عَـيّن حمزة بن عبد المطلب قائداً على ثلاثين رجلاً؛ ليعترض قريشاً على شاطئ البحر. وعَـيّن عبيدة بن الحارث على ستين، وأرسله إلى وادي رابغ لملاقاة قريش. وعَيّن سعد بن أبي وقاص على عشرين، وأرسله نحو مكة. وهكذا كان يُعيّن قواد الجيوش، مما يدل على أن الخليفة هو الذي يُعيّن القواد وأمراء الألوية. وهؤلاء جميعاً كانوا مسؤولين أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وليسوا مسؤولين أمام أحد غيره، مما يدل على أن القضاة، ومديري الدوائر، وقواد الجيش ورؤساء أركانه، وسائر الموظفين، ليسوا مسؤولين إلا أمام الخليفة، وليسوا مسؤولين أمام مجلس الأُمة. ولا يُسأل أحد أمام مجلس الأُمة سوى المعاونين، والولاة، ومثلهم العمال لأنهم حكام، وما عداهم لا يكون أحد مسؤولاً أمام مجلس الأُمة، بل الكل مسؤولون أمام الخليفة. وأما الفقرة (و) فإن موازنة الدولة بالنسبة لأبواب الواردات وأبواب النفقات محصورة في الأحكام الشرعية، فلا يُجبى دينارٌ واحدٌ إلا بحسب الحكم الشرعي، ولا يُنفَق دينارٌ إلا بحسب الحكم الشرعي. غير أن وضع تفصيلات النفقات، أو ما يسمى بفصول الموازنة، فهو الذي يوكل لرأي الخليفة واجتهاده، وكذلك فصول الواردات، فمثلاً هو الذي يقرر أن يكون خراج الأرض الخراجية كذا، وأن تكون الجزية التي تؤخذ كذا، وهذه وأمثالها هي فصول الواردات، وهو الذي يقول يُنفَق على الطرق كذا، ويُنفَق على المستشفيات كذا، وهذه وأمثالها هي فصول النفقات. فهذا هو الذي يرجع إلى رأي الخليفة، والخليفة هو الذي يقرره حسب رأيه واجتهاده؛ وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يأخذ الواردات من العمال، وهو الذي كان يتولى إنفاقها، وكان بعض الولاة يأذن لهم بتسلم الأموال، وبـإنفاقها كما حصل حين وَلّى معاذاً اليمن. ثم كان الخلفاء الراشدون ينفرد كلٌّ منهم بوصفه خليفة في أخذ الأموال، وفي إنفاقها، حسب رأيه واجتهاده. ولم ينكر على أحد منهم منكر، ولم يكن أحد غيرُ الخليفة يتصرف في قبض دينار واحد، ولا يصرفه إلا إذا أذن له الخليفة في ذلك، كما حصل في تولية عمر لمعاوية، فإنه جعل له ولاية عامة، يَقبض ويُنفِـق. وهذا كله يدل على أن فصـول موازنة الدولة إنما يضـعها الخـليفة، أو من ينيبه عنه. هذه هي الأدلة التفصيلية على تفصيلات صلاحيات الخليفة. ويجمعها كلها ما روى أحمد والبخاري عن عبد الله بن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «… الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته»، أي إن جميع ما يتعلق برعاية شؤون الرعية من كل شيء إنما هو للخليفة، وله أن ينيب عنه مَنْ يشاء، بما يشاء، كيف يشاء، قياساً على الوكالة.
الخليفة مُقيّد في التبني بالأحكام الشرعية، فيحرم عليه أن يَتبنى حكماً لم يُستَنبط استنباطاً صحيحاً مِِنَ الأدلة الشرعية. وهو مُقيّد بما تبناه مِنْ أحكام، وبما التزمه مِنْ طريقة استنباط، فلا يجوز له أن يَتبنى حكماً استُنبط حسب طريقة تناقض الطريقة التي تَبناها، ولا أن يُعطِـي أَمراً يناقض الأحكام التي تبناها. فالخليفة مقيد بهذين الأمرين. والأدلة على الأمر الأول، أي أن الخليفة مقيد في التبني بالأحكام الشرعية، هي: ثـانـيـاً: نص البـيـعـة التي يُـبـايَـع عليها الخـلـيـفـة تُلزمه بالتـزام الـشـريعة الإسلامية، إذ إنها بـيـعـة على العمل بالكتاب والـسـنة، فلا يَحـلّ له أن يَخـرُج عنهما، بل يكـفـر إن خرج عنهما معـتـقـداً، ويكون عاصياً وظالماً وفاسقاً إذا خرج عنهما غير معتقد. أما الأمر الثاني الذي هو أن الخليفة مُقيّد بما تبناه من أحكام، وبما التزمه من طريقة استنباط، فالدليل على ذلك هو أن الحكم الشرعي الذي يُنفّذه الخليفة هو الحكم الشرعي في حقه هو، لا في حق غيره، أي هو الحكم الشرعي الذي تبناه لـيُسيّر أعماله بحسبه، وليس أي حكم شرعي. فإذا استنبط الخليفة حكماً، أو قَلّد في حكم، كان هذا الحكم الشرعي هو حكم الله في حقه، وكان مقيداً في تبنيه للمسلمين بهذا الحكم الشرعي، ولا يَحلّ له أن يتبنى خلافه، لأنه لا يعتبر حكم الله في حقه، فلا يكون حكماً شرعياً بالنسبة له، وبالتالي لا يكون حكماً شرعياً بالنسبة للمسلمين؛ ولذلك كان مُقيّداً في أوامره التي يصدرها للرعية بهذا الحكم الشرعي الذي تبناه، ولا يَحلّ له أن يُصدِر أمراً على خلاف ما تبنى مِنْ أحكام؛ لأنه إن فعل فكأنه أصدر أمراً على غير الحكم الشرعي؛ ومن هنا كان لا يجوز له أن يُصدِر أمراً خلاف ما تبناه مِنْ أحكام. وأيضاً فإن طريقة الاستنباط يتغير بحسبها فهم الحكم الشرعي، فإذا كان الخليفة يرى أن علّة الحكم تُعتَبر علة شرعية إذا أُخِذت مِنْ نَصّ شرعي، ولا يرى أن المصلحة علّة شرعية، ولا يرى أن المصالح المرسلة دليل شرعي، إذا رأى ذلك فقد عَـيّن لنفسه طريقة الاستنباط، وحينئذٍٍ يجب أن يَتقيّد بها، فلا يصح أن يتبنى حكماً دليله المصالح المرسلة، أو يأخذ قياساً على علّة لم تؤخذ من نَصّ شرعي؛ لأن هذا الحكم لا يُعتَبر حكماً شرعياً في حقه، لأنه يرى أن دليله ليس دليلاً شرعياً، فهو إذن لم يكن في نظره حكماً شرعياً. وما دام لا يُعتَبر حكماً شرعياً في حق الخليفة فهو ليس حكماً شرعياً في حق المسلمين. فيكون كأنه تبنى حكماً من غير الأحكام الشرعية. فيحرُم عليه ذلك. وإذا كان الخليفة مُقلّداً، أو مُجتهد مسألة، وليس مجتهداً مطلقاً، أو مجتهد مذهب له طريقة معينة في الاستنباط، فإنه يسير في تبنيه حسب المجتهد الذي قلده، أو حسب اجتهاده هو في المسألة، مادام له دليل أو شُبهة الدليل. وفي هذه الحالة، يكون فقط مُقيّداً فيما يصدره مِنْ أوامر، بأن لا يصدرها إلا وفق ما تبناه مِنْ أحكام.
الدولة الإسلامية هي الخـلافة، وهي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا، فإذا بويع لخليفة بيعة صحيحة في أي بلد من بلاد المسلمين، وأقيمت الخلافة، فإنه يحرم على المسلمين في كل بقاع الدنيا أن يقيموا خلافة أخرى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». والخلافة هي لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، بالأفكار التي جاء بها الإسلام والأحكام التي شرعها، ولحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، بتعريفهم الإسلام ودعوتهم إليه، والجهاد في سبيل الله. ويُقال لها أيضاً الإمامة وإمارة المؤمنين. فهي منصب دُنيوي، وليست منصباً أخروياً. وهي موجودة لتطبيق دين الإسلام على البشر، ولنشره بين البشر. وهي غير النبوة قطعاً. فالنبوة منصب إلهي، يعطيها الله لمن يشاء، يتلقى فيها النبي أو الرسول الشرع من الله بواسطة الوحي، بينما الخـلافة منصب بشري، يُبايع فيه المسلمون مَنْ يشاؤون، ويُقيمون عليهم خليفة مَنْ يُريدون مِن المسلمين. وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان حاكماً، يطبق الشريعة التي جاء بها. فكان يتولى النبوة والرسالة، وكان في الوقت نفسه يتولى منصب رئاسة المسلمين في إقامة أحكام الإسلام. وقد أمره الله بالحكم، كما أمره بتبليغ الرسالة. فقال له: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ}[049:005]، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ}[105:005] ، كما قال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}[067:005]، وقال: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ }[019:006]، وقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ{1} قُمْ فَأَنذِرْ}[001:074]. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتولى مَنصِبين: مَنصِب النبوة والرسالة، ومَنصِب رئاسة المسلمين في الدنيا لإقامة شريعة الله التي أوحى له بها. أما الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يتولاها بشر، وهم ليسوا أنبياء، فيجوز عليهم ما يجوز على البشر من الخطأ، والسهو، والنسيان، والمعصية، وغير ذلك؛ لأنهم بشر. فهم ليسوا معصومين؛ لأنهم ليسوا أنبياء ولا رسلاً. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الإمام (الخليفة) يمكن أن يخطئ، كما أخبر بأنه يمكن أن يحصل منه ما يُبـَـغِّضُه للناس، من ظلم، ومعصية، وغير ذلك، بل أخبر بأنه قد يحصل منه كفر بَواح، وعندها لا يطاع، بل يُقاتـَل. فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الإمام جُنَّة، يقاتل من ورائه ويُتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه»، وهذا يعني أن الإمام غير معصوم، وأنه جائز عليه أن يأمر بغير تقوى الله. وروى مسلم عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم» [عبد الله هو ابن مسعود]. وروى البخاري عن جُنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله، حدّثْ بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعَنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بَواحاً عندكم من الله فيه برهان». وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله. فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» رواه الترمذي. فهذه الأحاديث صريحة في أنه يجوز على الإمام أن يخطئ، وأن ينسى، وأن يعصي. ومع ذلك فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلزوم طاعته ما دام يحكم بالإسلام، ولم يحصل منه كفر بَواح، وما لم يأمر بمعصية؛ ولذلك فإن الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يخطئون ويصيبون، وليسوا معصومين أي ليسوا أنبياء حتى يقال إن الخلافة دولة إلهية، بل هي دولة بشرية يبايع فيها المسلمون خليفة لإقامة أحكام الشرع الإسلامي.
ليس لرئاسة الخليفة مُدّة مُحدّدة بزمن مُحدّد. فما دام محافظاً على الشرع، مُنفّذاً لأحكامه، قادراً على القيام بشؤون الدولة، ومسؤوليات الخـلافة، فإنه يبقى خليفة. ذلك أنّ نَصّ البيعة الواردة في الأحاديث جاء مطلقاً، ولم يُقَـيّد بمدّة مُعيّنة، لما روى البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عَبدٌ حَـبَشيٌ، كأن رأسه زبيبة» وفي رواية أخرى لمسلم من طريق أم الحصين: «يقودكم بكتاب الله». وأيضاً فإن الخلفاء الراشدين قد بُويع كلٌ منهم بيعةً مُطلقة، وهي البيعة الواردة في الأحاديث. وكانوا غير محدودي المدة، فتولّى كل منهم الخـلافة منذ أن بُويع حتى مات. فكان ذلك إجماعاً من الصحابة رضوان الله عليهم على أنـّه ليس للخلافة مدة محددة، بل هي مُطلقة، فإذا بُويع ظلّ خليفة حتى يموت. إلا أنه إذا طرأ على الخليفة ما يجعله معزولاً، أو يستوجب العزل، فإن مُدّته تنتهي، ويُعزل. غير أن ذلك ليس تحديداً لمدته في الخـلافة، وإنما هو حدوث اختلال في شروطها. إذ إن صيغة البيعة الثابتة بالنصّ الشرعي، وإجماع الصحابة، تجعل الخـلافة غير مُحدّدة المدة، لكنها مُحدّدة بقيامه بما بُويع عليه، وهو الكتاب والسنة، أي بالعمل بهما، وتنفيذ أحكامهما، فإن لم يحافظ على الشرع، أو لم ينفذه، فإنه يجب عزله.
إذا فقد الخليفة أي شرط من شروط الانعقاد السبعة، فإنه لا يجوز له شرعاً الاستمرار في الخـلافة، ويكون مستحق العزل. والذي يملك قرار عزله هو فقط (محكمة المظالم). فهي التي تقرر إن كان فَقَدَ أي شرط من شروط الانعقاد أو لا. وذلك أن حدوث أي أمر من الأمور التي يُعزل فيها الخليفة، والتي يستحق فيها العزل، مَظْلـِمَة من المظالم، فلا بد من إزالتها، وهي كذلك أمر مِن الأمور التي تحتاج إلى إثبات، فلا بدّ مِن إثباتها أمام قاضٍ. وبما أن محكمة المظالم هي التي تحكم بـإزالة المظالم، وقاضيها هو صاحب الصلاحية في إثبات الـمَظْلـِمَة والحكم بها؛ لذلك كانت محكمة المظالم هي التي تقرر فقد الخليفة لشروط الانعقاد أو لا، وهي التي تقرر عزل الخليفة. على أن الخليفة إذا فقد شرط الانعقاد فخلع نفسه، فقد انتهى الأمر، وإذا رأى المسلمون أنه يجب أن يُخلع لفقدانه أحد شروط الانعقاد، ونازعهم في ذلك، فإنه يُرجَع للفصل في ذلك إلى القضاء؛ لقوله تعالى:{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[059:004] أي تنازعتم أنتم وأُولو الأمر، وهذا تنازع بين وليّ الأمر وبين الأُمة، ورده إلى الله والرسول هو رده إلى القضاء، أي إلى محكمة المظالم.
المدة التي يمهل فيها المسلمون لإقامة خليفة هي ثلاثة أيام بلياليها، فلا يَحِلّ لمسلم أن يبيت ثلاث ليال وليس في عنقه بيعة. أما تحديد أعلى الحد بثلاث ليال، فلأن نصب الخليفة فرض منذ اللحظة التي يتوفى فيها الخليفة السابق أو يعزل، ولكن يجوز تأخير النصب مع الاشتغال به مدة ثلاثة أيام بلياليها، فإذا زاد على ثلاث ليال، ولم يقيموا خليفة، يُنظَر، فإن كان المسلمون مشغولين بـإقامة خليفة، ولم يستطيعوا إنجاز إقامته خلال ثلاث ليال، لأمور قاهرة لا قبل لهم بدفعها، فإنه يسقط الإثم عنهم؛ لانشغالهم بـإقامة الفرض، ولاستكراههم على التأخير بما قهرهم عليه. روى ابن حبان وابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استُكْرِهوا عليه». وإن لم يكونوا مشغولين بذلك فإنهم يأثمون جميعاً حتى يقوم الخليفة، وحينئذٍ يسقط الفرض عنهم. أما الإثم الذي ارتكبوه في قعودهم عن إقامة خليفة فإنه لا يسقط عنهم، بل يبقى عليهم يحاسبهم الله عليه، كمحاسبته على أية معصية يرتكبها المسلم، في ترك القيام بالفرض. أما دليل وجوب مباشرة الاشتغال في بيعة الخليفة لمجرد خلو منصب الخـلافة، فهو أن الصحابة قد باشروا ذلك في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، في اليوم نفسه، وقبل دفنه صلى الله عليه وسلم ، وقد تمت بيعة أبي بكر بيعة انعقاد في اليوم نفسه، ثم في اليوم الثاني جمعوا الناس في المسجد لبيعة أبي بكر بيعة الطاعة. أما كون أقصى مدة يمهل فيها المسلمون لنصب الخليفة ثلاثة أيام بلياليها؛ فذلك لأن عمر عهد لأهل الشورى عند ظهور تحقق وفاته من الطعنة، وحدّد لهم ثلاثة أيام، ثم أوصى أنه إذا لم يُتفق على الخليفة في ثلاثة أيام، فليقتل المخالف بعد الأيام الثلاثة، ووكّل خمسين رجلاً من المسلمين بتنفيذ ذلك، أي بقتل المخالف، مع أنهم مِنْ أهل الشورى، ومِنْ كبار الصحابة، وكان ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة، ولم يُنقَل عنهم مُخالف، أو مُنكِر لذلك، فكان إجماعاً من الصحابة على أنه لا يجوز أن يخلوَ المسلمون من خليفة أكثر من ثلاثة أيام بلياليها، وإجماع الصحابة دليل شرعي كالكتاب والسنة. أخرج البخاري من طريق المِسْوَر بن مخرمة قال: «طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم» أي ثلاث ليال. فلما صلى الناس الصبح تمت بيعة عثمان. ولذلك، فإن على المسلمين عند شغور مركز الخليفة، أن ينشغلوا في بيعة الخليفة التالي وينجزوها خلال ثلاثة أيام، أما إذا لَم ينشغلوا ببيعة الخليفة بل قضي على الخـلافة وقعدوا عنها، فهم آثمون منذ القضاء عليها وقعودِهم عنها، كما هو حادث اليوم، فالمسلمون آثمون لعدم إقامتهم الخلافة منذ إلغاء الخلافة في 28 رجب 1342هـ، إلى أن يقيموها، ولا يبرأ من الإثم إلا من تلبس بالعمل الجاد لها مع جماعة مخلصة صادقة؛ فبذلك ينجو من الإثم، وهو إثم عظيم كما بيّنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «… ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» للدلالة على عظم الإثم. |