مفهوم الحاكمية في الإسلام
كتب السيد غيث القضاة مقالا في جريدة الغد بعنوان: “هل الحكم لله أم للناس؟”، وجدت الأفكار التالية الأساسية فيه: أولها مفهوم الحاكمية، ينفي الكاتب أن يكون الحكم وصفا للسلطة السياسية العليا في المجتمع، بل الحكم بحسبه يدل على القضاء، ولا علاقة له بنظام الحكم، فذكر أن آية: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ موضوعها القضاء، بدلالة مناسبة النزول، وأن آيات المائدة ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]. كان الخطاب فيها لأهل الكتاب، وثانيها: أن الأمة مصدر السلطات، فلا تناقض بين أن تكون السلطة لله وللأمة، فالإسلام بحسب الكاتب لم يحدد نظاما محددا للحكم أو تفاصيل العمل السياسي والاقتصادي، وإنما دعا لتحقيق قيم العدل والمساواة والشورى، والدولة المدنية! فحيثما كان العدل فثم شرع الله! تلك العبارة التي نسبها لابن القيم، ولم نعثر عليها في كتب ابن القيم!
الحكم، والقضاء لغة، وشرعا:
قال ابن فارس: مادة (ح ك م) أصل واحد هو المنع[1]. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله (حَكَمَ: أصله منع منعا لإصلاح،… والحكم بالشيء أن تقضي بأنه كذا، أو ليس بكذا، سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه،.. ويقال حاكم لمن يحكم بين الناس، ويقال الحَكَمُ للواحد والجمع وتحاكمنا إلى الحاكم) [2] . والقضاء في اللغة: قال ابن فارس: والقضاء: الحُكم. قال الله سبحانه في ذكر من قال: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ [طه: 72] أي اصنَعْ واحكُمْ. ولذلك سمِّي القاضي قاضياً، لأنَّه يحكم الأحكامَ ويُنْفِذُها.[3] وقال الجوهري في الصحاح: القَضاءُ: الحكم، وأصله قَضايٌ لأنَّه من قَضَيْتُ، والجمع الأقْضِيَة. والقَضِيَّةُ مثله، والجمع القَضايا. وقَضى، أي حَكَمَ، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾.[4]
وحين أمر الله تعالى رسوله ﷺ بالحكم بما أنزل الله، فإن ما له علاقة بهذا الأمر مما أنزل الله تعالى يشمل: علاقات للإنسان بخالقه (العقائد والعبادات)، وعلاقات للإنسان بنفسه (الأخلاق والمطعومات والملبوسات)، وعلاقات للإنسان بغيره من بني الإنسان (المعاملات والعقوبات)، فأما علاقات الإنسان بربه وبنفسه ففي الغالب لا ينشأ عنها حدوث علاقات تترتب عليها مشاكل في المجتمع، إلا ما شاكل تعيين مواقيت الصيام والأعياد والحج، والزكاة والجهاد، فللحاكم دور مهم فيها، بخلاف المعاملات والعقوبات، فإنها علاقات بين أفراد المجتمع تترتب عليها مشاكل ومنازعات بين الناس، تستلزم البت فيها من قبل جهاز الحكم في الدولة، وأساس هذه المعاملات أنظمة تتعلق بالاجتماع (علاقة الرجل بالمرأة) والاقتصاد (توزيع الثروة وتملّكها والتصرف بها)، والتعليم، والسياسة الخارجية (العلاقات مع الدول الأخرى) والحكم (رئاسة الدولة، ومعاونوه في الحكم، والولاة، والقضاة، والجيش، والجهاز الإداري، ومجلس الشورى). فالحكم إذن يتضمن: رعاية شئون الرعية، وتدبير مصالحهم، وفض الخصومات بينهم، وتنفيذ الأحكام عليهم فيما فيه إلزام فيلزمهم به، وهذا كله يجري وفق أحكام شرعية عملية تتنزل على الوقائع، فتمنع (الحكم لغة المنع) من تجاوز الحكم الشرعي لغيره، لإصلاح الناس بالشرع! (الحكم لغة منعٌ لإصلاح) أي تجعل الحكم الشرعي حكما لازم الاتباع، فالحاكم يقضي به، والعالم يستنبطه، والقاضي يفض الخصومات بناء عليه، والدولة تطبقه بسلطانها الذي استمدته من الأمة، وبالقوة التي لديها تأطر عليه حين اللزوم، فتقضي بالحكم الشرعي وتلزم باتباعه حيثما خولت الإلزام، لذلك فالحكم، والقضاء وإن تداخل معناهما لغة، إلا أن واقعهما تعدى فض الخصومات وتجاوزه إلى معنى أعم منه، تجاوزها لرعاية الشئون وفق أحكام شرعية نزلت على الوقائع، وخصص مجال القضاء بفض الخصومات، وأعطي الحاكم سلطان الأمة لينفذ فيها الأحكام ويرعى شئونها وفقا لها!
وعليه، فإن دلالة معنى الحكم الوارد في قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]: شاملة لكل شأن نزل فيه حكم شرعي في القرآن والسنة وجب أن يتحاكموا إليه في معاملات أو عقوبات أو زكاة أو جهاد…الخ!، ودلالة معنى التحكيم في قوله تعالى ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]: القضاء وما فوقه بحسب ما شجر بين رعايا الدولة، ودلالة الحكم في قوله تعالى ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الممتحنة: 10]: أمر الله تعالى وشريعته، ودلالة الحكم في قوله تعالى ﴿وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70]: القضاء وهو تعيين النفع أو الضر للغير، حيث إن اللام في قوله ﴿وَلَهُ ٱلْحُكْمُ﴾ لام المُلك، والتقديم فيها للاختصاص، وحذف المتعلق بالحكم لدلالة قوله ﴿فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ﴾ عليه، أي له الحكم في الدارين. والاختصاص مستعمل في حقيقته ومجازه لأن الحكم في الدنيا يثبت لغير الله على المجاز، وأما الحكم في الآخرة فمقصور على الله.[5]
مفهوم الحاكمية:
قال الله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾، [الأنعام: 57]، [يوسف: 40]، [يوسف: 67]، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة: 1]، ﴿وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ [الرعد: 41]، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]، ﴿وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70]. ﴿ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ [الأنعام: 62]، ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]، ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 21]، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: 59].
فمن مجموع دلالات هذه الآيات – وغيرها كثير – يتبين مفهوم الحاكمية؛
- فهي تعني: الحاكمية العليا لله في تسيير هذا الكون كله، ووضع سننه وتدبير شؤونه، وإمضاء أمره، فالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لحُكْمِهِ.
- وتعني: أن الله مالك يوم الدين هو الذي يفصل بين الناس فيما كانوا فيه يختلفون ويحكم بينهم، ولا يظلم ربك أحدا.
- وتعني: أن الله هو الذي يشرع لعباده، وهو الذي يُبين لهم سبحانه الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، والخير من الشر، والحسن من القبيح، والإيمان من الكفر، فلا حكم إلا له سبحانه[6].
وعليه، فالحاكمية التشريعية معنى من معاني الحاكمية، وهي حق لله تعالى بوصفه ربا، إلها، خالقا، ملكا، مالكا، مدبرا، حكيما، عليما، لطيفاً، خبيرا.
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
أما الآيات التي استدل بها الكاتب على أن سبب نزولها القضاء في خصومات، أو الآيات التي خوطب بها بنو إسرائيل وأهل الكتاب، فحين يقول الله تعالى لرسوله ﷺ: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ فإن اللفظ عام يعم الحكم بين الناس في أي شأن، ولا يخصص بالحادثة التي نزلت الآية لبيان الحكم فيها، ويعم كل ما أنزل الله كما جاء في التفصيل أعلاه، والقاعدة الأصولية: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ عام ليشمل الحكم في أي شأن، وأما الآيات التي وردت في سورة المائدة وإن كان بعضها نزل في أهل الكتاب، إلا أن فيها آيات نزلت بصريح العبارة لسيدنا محمد ﷺ ولأمته، فحين أمر الله أهل الكتاب بأن يحكموا التوراة والإنجيل وإلا فهم كافرون ظالمون، (وهذه الآيات نزلت في يهود كانوا يعيشون خارج سلطان الدولة الإسلامية، أتوا ليحكم بينهم النبي ﷺ، فعنفت عليهم بأنهم يجدون الأحكام في التوراة ولا يحكمونها، ويدعون الإيمان) ومن ثم قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ وهو ما يقطع قول كل خطيب، فالخطاب فيه للرسول ﷺ، ليحكم بما أنزل إليه! على أن الآيات جاءت بلفظ العموم، فقال: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم﴾، فاللفظ (ومن) يعمنا، ويعمهم، ويعم كل من لم يحكم بما أنزل الله، فهو من ألفاظ العموم بحسب وضع اللغة العربية، لا يحتاج لقرينة كي نفهم منه أنه يعم!
الحكم لله أم للبشر؟
إلى جانب أن الله تعالى قد قرر وأمر وحصر بأن يكون الحكم، وحق التشريع له وحده، بحكم ربوبيته، إذ الحاكمية من خصائص الربوبية باختصاص الله بالتشريع، ومن خصائص الألوهية إفراده تعالى بالعبودية بالتزام ما شرع وعدم اتخاذ غيره أربابا يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله، أو يغيروا أحكامه ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 40]، جمع في هذه الآية بين حق الطاعة وحق العبادة، فحق على العباد أن يطيعوا الله فيما أمر، وأن يعبدوه، فالربوبية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية ومن يحكم بغير ما أنزل الله فإنه يرفض ربوبية الله وخصائصها في جانب، ويدّعي لنفسه هو حق الربوبية وخصائصها في جانب آخر.
وقد وصف الله تعالى الاحتكام لغير ما أنزل بأنه احتكام للطاغوت، أمر بالكفر به، واحتكام للجاهلية، فقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]، ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60]، وفوق ذلك فإنه نعى على البشر حين يشرعون بأن أحكامهم تمثل اتباعا للهوى حرمه ونهى عنه أيما نهي، فقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ 18 الجاثية. ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 49].
وقد جمعت الأحكام الربانية خصائص تشريعية يستحيل أن يستطيع البشر الإحاطة بها في تشريعاتهم نذكر منها: إحاطته سبحانه وتعالى بطبيعة البشر ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، وبما يصلح للناس وبما يصلحهم، ﴿وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216]، [البقرة: 232]، [آل عمران: 66]، [النور: 19]، وبما يطيق الخلق وما لا يطيقون، ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286]، وما فيه رفع للحرجِ وللعُسْرِ عنهم ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وبما يقيم الحق ويبطل الباطل، ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: 35]، وبما يقيم العدل والقسط، ويرفع الظلم، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، وبما يُصلح معيشة الناس وبما يَصْلُحُ لهم في معاشهم وآخرتهم، وبما يصلح لكل زمان ومكان وحال ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]،
ولم يترك الله تعالى للناس أن يشرعوا، ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10]. فأحكامهم التي تستند بقوانين وضعية اتباع للهوى، ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: 48]، وإفساد في الأرض، ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28]، وتكريس للظلم الذي أنزلت الشرائع لمحقه، واستعباد لبعضهم بعضا، وهو يخالف أن الناس خلقوا أحرارا، ولكنهم خلقوا عبيدا لله! ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ [التوبة: 31]، واعتداء على حق الله تعالى بالتشريع والحكم ﴿وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، [القصص: 70].
لذلك فقد أمر الله تعالى بالحكم بما أنزل، وإلا فالكفر أو الفسق أو الظلم! ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]، وأمر برد الخصومات والنزاعات للكتاب والسنة، أي لشريعته، وإلا فالإيمان مجرد زعم! ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 60]، ونفى تحقق الإيمان عند عدم الاحتكام، والرضا، والتسليم بما حكم القرآن والسنة: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾، [النساء: 65].
نظام الخلافة نظام رباني وليس من وضع البشر:
تقوم أنظمة الحكم على تشريعات وقوانين تبين شكل الدولة وصفتها، وقواعدها وأركانها، وأجهزة الدولة في الحكم والإدارة التي تُكوِّنُ الحكومةَ وتُنَظِّمُ عملها، وسلطاتِها، وتنظيمها السياسي فيما يتعلق بعلاقة الولايات بالمركز وما شاكل، وقوانينها الإدارية، والأساس الذي تقوم عليه، والقوانين الأساسية الناظمة لها التي تشكل مرجعيتها ومقاييسها (الدستور)، وشروط الحاكم، وتحدد صلاحيات الحاكم، وتفصل في طريقة اختياره، وطريقة تنصيب الخليفة (البيعة)، وأحكام الطاعة، وأحكام خلو الزمان من مستحق للبيعة، وطريقة عزله، وأحكام تعدد الخلفاء، وقتل الخليفة الثاني، وأحكام شق صف المسلمين بإيجاد كيان ثان لهم، ولقد ربط الإسلام بين مفاهيم السلطان، والجماعة، والطاعة ربطا محكما، فالخروج عن الجماعة وعن السلطان خلع لربقة الإسلام من الأعناق، ويثلم الخارج، أو من يشق عصا الطاعة ثلمة في الإسلام لا يمكن رتقها، وميتة جاهلية!
وتضبط العلاقات بين الراعي والرعية وبين الناس فيما بينهم، ومسؤوليات الدولة الرعوية، وتبين الأفكار والمفاهيم والمقاييس التي ترعى الشؤون بمقتضاها، و”الأساس الفكري الذي يحدد حقوق الأفراد، وينظم العلاقة السياسية بين الدولة كسلطة تقوم على رعاية شئون الناس، وحماية حقوقهم ورعايتها[7]“، وتحدد مفاهيم السلطان والسيادة والطاعة وما شابهها، وتحدد الدستور والقوانين التي تطبقها، وتفصل في أحكام الخروج على تلك الأحكام، وأحكام حماية الدولة، (التشريعات الجنائية الخاصة بالدولة)، وأحكام خروج الرعية على الدولة، وأحكام خروج الحاكم على منظومة القيم التي قامت عليها الدولة، وخصوصا الخروج على الحاكم حين إظهار نظام آخر غير نظام الإسلام (الكفر البواح)، ودور الأمة والأحزاب في محاسبة الحاكم، وأحكام نصيحة الحكام وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودورهم في ضمان سيادة منظومة القيم التي قامت عليها الدولة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما تفردت به الدولة الإسلامية عن غيرها من النظم في إقامة المسئوليات على كافة الصعد لضمان بقاء تلك القيم سائدة وعليا في المجتمع والدولة) وأحكام السلطان والأمان، والسيادة، (أي من هو صاحب القول الفصل فيما يقع من تنازع ونقاش في شتى الأمور[8]، وبمعنى أن الكلمة العليا في الدولة وخاجها لمن؟)، وأحكام تنظيم الرقابة القضائية على الأعمال الإدارية للدولة، ورقابة قضاء المظالم، ورقابة نزاهة القضاء،[9] وما يشكل مجموعُهُ أحكام السياسة الشرعية، سنجد أن الإسلام حدد هذه كلها بدقة متناهية بأحكام ثابتة في القرآن والسنة، أي أن الشارع قد أحاط بتفاصيل الأحكام المتعلقة بالدولة، ولم يترك تفاصيل هذه الأحكام للناس، فالخلافة إذن نظام رباني.
وقد وردت آيات تأمر بتنصيب ولي أمر يستحق الطاعة مقابل تطبيق الشريعة في الأمة، فالأمر بطاعة ولي الأمر أمر بتنصيب ولي الأمر، وقد رتبت الآيات والأحاديث الطاعة بالتزام ولي الأمر بتطبيق الشريعة، فهي طاعة لولي أمر مخصوص لا طاعة لأي حاكم يحكم بالطاغوت كما هم حكام اليوم نواطير الاستعمار أعداء الأمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾. إلى أن قال سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾. فهذه النصوص تبيّن أن الفكر السياسي الإسلامي يقوم على أساس أن السيادة للشرع وليست لجهاز الحكم، وبناء على ذلك فإن طاعة ولي الأمر وخليفة المسلمين مرتبطة بطاعته لشرع الله تعالى، وقد روى مسلم في كتاب الإمارة عَنْ يَحْيَى بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَدَّتِي تُحَدِّثُ أَنَّهَا
سَمِعَتْ النَّبِيَّ ﷺ يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يَقُولُ: «وَلَوْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» فاشترط للطاعة أن يقود بكتاب الله تعالى.
وقد نزلت آيات تفصيلية في التشريع الحربي والجنائي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والمعاملات والقضاء وغيرها، وكلها أُنزلت للحكم بها ولتطبيقها وتنفيذها. وقد طُبقت بالفعل في الواقع العملي أيام الرسول ﷺ، وأيام الخلفاء الراشدين، ومن أتى بعدهم من حكام المسلمين. مما يدل دلالة واضحة على أن الإسلام نظامٌ محدد للحكم والدولة، وللمجتمع والحياة، وللأُمة والأفراد. كما يدل على أن الدولة لا تملك الحكم إلا إذا كانت تسير وفق نظام الإسلام. ولا يكون للإسلام وجود إلا إذا كان حياً في دولة تُنفذ أحكامه. فالإسلام دين ومبدأ والحكم والدولة جزء منه، والدولة هي الطريقة الشرعية الوحيدة التي وضعها الإسلام لتطبيق أحكامه وتنفيذها في الحياة العامة. ولا يوجد الإسلام وجوداً حياً إلا إذا كانت له دولة تطبقه في جميع الأحوال، كما يدل دلالة قاطعة على أن الإسلام حدد بالتفصيل شكل نظام الحكم وتفصيلاته، وطبقها واقعا عمليا في دولة النبوة الأولى في المدينة ومن ثم في دولة الخلافة من بعده، مما يسقط كل شبهة تقوم على أن الإسلام إنما ترك تحديد تلك التفصيلات لكل عصر وزمان ولعقول الناس وأهوائهم.
وقد أقام الرسول ﷺ الدولة الإسلامية في المدينة وبين أجهزتها ونظامها، فعين الولاة، والقضاة، والمعاونين، وأقام نظام الشورى، وباشر الحكم فيها، وبايعه الصحابة بوصفه رئيسا للدولة، وحين انتقل للرفيق الأعلى سبحانه وتعالى استمر النظام الذي أنشأه هو هو، وكما سماه ﷺ بالخلافة في جملة من الأحاديث التي سبق وذكرنا طرفا منها،
مما يدل دلالة واضحة على أن شكل الدولة الإسلامية ونظامها تشريع رباني، وأن الأحكام نزلت ونزلت معها طريقة تطبيقها، ولم تترك الأمر لأهواء الناس وما تعارفوا عليه!
لذلك كان نظام الخلافة هو النظام الرباني الذي به يستخلف الناس في الأرض ليقيموا أحكام الله، ويختارون خليفة يحكمهم بشرع الله، فكانت التسمية والنظام نفسه ربانيين فرضا من الله تعالى، لا من صنع البشر.
والحمد لله رب العالمين
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
ثائر سلامة – أبو مالك
[1] معجم مقاييس اللغة ـ 2/91 ـ مطبعة الحلبي
[2] مفردات ألفاظ القرآن ـ مادة حكم 248 ـ دار القلم
[3] معجم مقاييس اللغة
[4] الصحاح في اللغة للجوهري.
[5] ابن عاشور في التحرير والتوير.
[6] أنظر: الأمة بوست: الحاكمية عند سيد قطب، رد على مقال الحاكمية بين الغزالي وسيد قطب للدكتور محمد عمارة، بتصرف يسير.
[7] الدولة المعاصرة في ضوء الفكر الإسلامي رسالة دكتوراة للدكتور عثمان بخاش. ص 9.
[8] الدولة المعاصرة في ضوء الفكر الإسلامي رسالة دكتوراة للدكتور عثمان بخاش. ص 7.
[9] أنظر: النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية دراسة شرعية وقانونية مقارنة للأستاذ الدكتور منير حميد البياتي، ص 16