سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الخامسة: نظام الخلافة الاستمرار الشرعي لإقامة العدل في السموات والأرض
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الخامسة: نظام الخلافة الاستمرار الشرعي لإقامة العدل في السموات والأرض
إن الله تعالى قد أقام السموات والأرض على ميزان الحق، وحرم على نفسه الظلم وجعله بين الناس محرما، وأنزل الشريعة الميزان القسط ليقوم الناس بالحق، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، وفرضَ طاعةَ أولي الأمرِ، ما أقاموا الشريعة – أحكام الإسلام – في الناس، ليستقيم المنسم، فيعم الأرضَ العدلُ ويمَّحي منها الظلمُ، وقد قال طاووس اليماني: “أتعلمون من أبغضُ الخلقِ إلى اللهِ؟ قلنا: لا، فقال: إن أبغضَ الخلقِ إلى اللهِ تعالى عَبْدٌ أشْرَكَهُ اللهُ في سُلطانِهِ، فَعَمِلَ فِيْهِ بِمَعَاصِيْهِ”،
لقد حفظ هذا عن طاووس اليماني رضي الله عنه ابنُه عبد الله بن طاووس فقد جاء في شذرات الذهب، وفي كثير من كتب التاريخ والسير، روى زياد عن مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لما بعث أبو جعفر في عام 142هـ إلى مالك بن أنس وابن طاوس قال: دخلنا عليه وهو جالس على فرش، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلادون بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا، فأطرق زماناً طويلاً ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس وقال: حدثني عن أبيك. قال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله: ﷺ “إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى في سلطانه، فأدخل عليه الجور في حكمه“.[1]
إن الناس إن احتكموا إلى شرع الله ساد العدل وقامت السموات والأرض بالحق، فيتنزل فضل الله تعالى على البرية مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾ [الجن: 16].
فإذ أدخل عليهم حكامهم الجور وطغوا وبغوا، أبعدوا الناس عن الاستقامة، وإذ لم يأخذ الناس على أيدي حكامهم ليأطروهم على الحق أطرا، ضاع الحق، ففسدت الأرض، فدخل الجور في الأرض، فاستبيحت الحرمات، وانتهكت الحقوق، وفسدت الأحكام، فدخل الجور إلى ملكوت الأرض؛ لقد فرض الله تعالى على الخلق حكاما ومحكومين أن يقوموا بالقسط، فأبى من أبى، ونكص على عقبيه من نكص، فدخل الجور، لذا يشتد سخط الله ويشتد عذابه، لذلك يكون هذا الذي أشركه الله في سلطانه قد أدخل الجور في ذلك السلطان وعمل فيه بمعاصيه!.
إن قضية الحكم بما أنزل الله بهذا الحجم من الخطورة، لا يكاد يضاهيها في الخطر قضية مثلها، فإما أن يسود حكم الله الأرض فيسود العدل، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، وإما يدخل على ملكوت الله الجور من قِبَلِ حُكَّامٍ الأصل أنهم يحكمون خلفاء في الأرض ليقوم الناس بالقسط، أو من قِبَلِ مَحْكُومِيْنَ ارتضوا أن يُحْكَمُوا بغير شرع الله فارتضوا أن يسود الأرض غير عدل الله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة.
في الحديث القدسي عن أبي ذرٍ جندب بن جنادة، رضي الله عنه، عن النبي ﷺ فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا».
فقد حرم الله الظلم على نفسه، وحرمه على العباد وأنزل الشرع الذي يضمن أن لا يدخل الجور في ملكوت السموات والأرض، فالويل والثبور لمن أدخل الظلم في هذا الملكوت، فكيف بمن يحكم بغير العدل مما أنزل الله متبعا هواه، وكيف بمن يحكم بغير ما أنزل الله فيقضي بالظلم ولا يكتفي بأن يدخل على الله تعالى في سلطانه الجور في الحكم ولا يكتفي بأن يمنع الناس من العدل الذي شرعه لهم رب العزة سبحانه ليقوموا بالقسط، بل إنه يرد على الله تعالى أحكامه ويتخذ نفسه ربا من دون الله. ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِم فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 71].
[1] فأمسك أبو جعفر ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه، قال مالك: فضممت ثيابي خوفا من أن يصيبني دمه، ظنا منه أن المنصور لابد قاتله، ثم قال المنصور لعبد الله: ناولني تلك الدواة، ثلاث مرات، فلم يفعل، فقال له: لم لم تناولني الدواة؟ فقال: أخاف أن تكتب بها معصية فأكون قد شاركتك فيها. فلما سمع ذلك قال لهما: قوما عني، فقال عبد الله: هذا ما كنا نبغي، قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله من يومئذ.