سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الثالثة عشرة: نصب الخليفة من أعظم واجبات الدين، إذ لا قيام للدين إلا به
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الثالثة عشرة: نصب الخليفة من أعظم واجبات الدين، إذ لا قيام للدين إلا به
إذن، فقد علمنا أن الشارع أناط تطبيق بعض الأحكام الشرعية بالأفراد وبعضها بالأحزاب وجُلَّها بالدولة، فما تعلق بالأفراد بصفتهم الفردية أمثال العبادات، خوطب الفرد بالقيام به كالصلاة وأداء الزكاة، ولكن الشارع في الوقت نفسه خاطب الدولة بتنظيم الأحكام المتعلقة بالمجتمع والجماعة، إضافة إلى أحكامٍ متعلقةٍ بهذه الأحكام الفردية، لضمان أداء هذه الأحكام على الوجه المطلوب شرعا، فمن ذلك مثلا: الصلاة، فإن الفرد يقيم الصلاة، ولكن الدولة تعاقب تارك الصلاة، و قد قال الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 39-41]. معلوم أن الصلاة كانت مفروضة عليهم قبل التمكين، وكانوا يصلون، والآيات تتحدث عن المهاجرين، قال الرازي في تفسيره، مفاتيح الغيب: “والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق لأن المتبادر إلى الفهم من قوله: ﴿مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأَرْضِ﴾ ليس إلا هذا، ولأنا لو حملناه على أصل القدرة لكان كل العباد كذلك وحينئذ يبطل ترتب الأمور الأربعة المذكورة عليه في معرض الجزاء، لأنه ليس كل من كان قادراً على الفعل أتى بهذه الأشياء. إذا ثبت هذا فنقول: المراد بذلك هم المهاجرون لأن قوله: ﴿ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـٰهُمْ﴾ صفة لمن تقدم وهو قوله: ﴿ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِم﴾ والأنصار ما أخرجوا من ديارهم فيصير معنى الآية أن الله تعالى وصف المهاجرين بأنه إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطنة، فإنهم أتوا بالأمور الأربعة، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” انتهى.
ولا معنى لإقامتهم الصلاة مترتبة على التمكين إلا أن يكون المعنى: حق إقامتها، فالصلاة من غير تمكين تقام مجزوءة، فمن ذلك أن المجتمع إن عاش حياة إسلامية سد ذرائع كثيرة تفسد علينا إحسان صلاتنا اليوم، من تفكير بالمعاش، ومن إعلامٍ يتسلط على عقولنا ونفوسنا فيفسد علينا طمأنينة الصلاة، ومن حرمات تظهر في الشوارع تفسد الخشوع والتأمل، وهكذا، فإن الارتباط وثيق بين حسن إقامة الصلاة وبين التمكين، ومن جهة أخرى، فإن الأفراد يستطيعون بناء المساجد وإقامة الخطباء، وإقامة صلوات الأعياد والجمع، ولكن الإقامة الصحيحة لهذه كلها من أعمال الدولة ومسئولياتها، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية تحت باب واجبات أولي الأمر: 10) تعيين القضاة وأمراء الحج، ورؤساء الجيش وولايتهم خاصة في الأعمال العامة،… وكذلك تعيين الأئمة للصلوات الخمس والجمعة، ولكل واحد من هؤلاء شروط تنعقد بها ولايته.[1] وقال: “والإمارة الخاصة من المصالح العامة للمسلمين والمنوطة بنظر الإمام… إمارة الاستكفاء: وهي أن يفوض الإمام (أي الخليفة) باختياره إلى شخص إمارة بلد أو إقليم أو ولاية… ويشتمل نظر الأمير في هذه الإمارة على أمور: 6) الإمامة في الجمع والجماعات، 7) تسيير الحجيج (إمارة الحج).[2] فهذه أمثلة على توقف بعض أمور الصلاة على الدولة ووجودها، رغم أن الصلاة فرض منوط بالأعيان!
ومن ذلك مثلا أن الزكاة تؤخذ من الغني وترد في مصارف الزكاة، يستطيع الفرد أداءها بنفسه لجاره الفقير مثلا، ولكن الشارع جعل الآلية الأحق لأدائها أن تُعطى للسلطان، وهو يقوم بتصريفها في مواردها، والآثار والأدلة في هذا كثيرة[3]، وإنما ضربناها مثالا على أن تنظيم أمور فعل العبادة احتاج لدولة.
وعلى ذلك قاتل سيدنا أبو بكر مانعي الزكاة، لما توفي رسول الله ﷺ، واستُخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: (كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابهم على الله»؟ فقال: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فوالله ما هو إلا رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق). وقال الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]، وهو خطاب للرسول ﷺ بصفته رئيسا للدولة، لذلك قاتل أبو بكر رضي الله عنه من منع رئيس الدولة عقالا!
قال العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى[4]: “يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي ﷺ: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم» فأوجب ﷺ تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روي: “إن السلطان ظل الله في الأرض”… ولهذا كان السلف -كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون “لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان” انتهى.
والأحكام المنوطة بالدولة نجد أن منها ما يمكن للأفراد أداؤه كإخراج الزكاة مباشرة للفقراء، ومنها ما لا يمكن للأفراد القيام به إلا من خلال دولة كالحدود، فلا يحق لأحد أن يعاقب بإقامة الحد إلا السلطان أو القاضي أو الوالي أو من أقاموه لينفذ ذلك، فبنظرة متفحصة على أحكام الشرع نجد الأحكام التالية منوطة بالدولة:
[1] الموسوعة الفقهية الكويتية الجزء السادس، ص 192
[2] الموسوعة الفقهية الكويتية الجزء السادس ص 197
[3] حدثنا أبو بكر قال حدثنا بشر بن المفضل عن سهيل عن أبيه قال سألت سعيدا وابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد فقلت: إن لي مالا وأنا أريد أن أعطي زكاته ولا أجد له موضعا وهؤلاء يصنعون فيها ما ترون. فقال: كلهم أمروني أن أدفعها إليهم، حدثنا معاذ بن معاذ عن ابن عون عن نافع قال: قال ابن عمر: ادفعوا زكاة أموالكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن بر فلنفسه ومن أثم فعليها، حدثنا أبو أسامة عن هشام عن محمد قال: كانت الصدقة تدفع إلى النبي ﷺ ومن أمر به وإلى أبي بكر ومن أمر به وإلى عمر ومن أمر به وإلى عثمان ومن أمر به، فلما قتل عثمان اختلفوا فمنهم من رأى أن يدفعها إليهم ومنهم من رأى أن يقسمها هو، قال محمد: فليتق الله من اختار أن يقسمها هو ولا يكون يعيب عليهم شيئا يأتي مثل الذي يعيب عليهم. وبناء على هذا الحق للسلطان قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة.
[4] مجموع الفتاوى: 28ص 390