سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة السادسة عشرة: أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة السادسة عشرة: أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة
ولأجل القيام بكل هذه الأحكام المنوطة بالدولة وتنظيم أدائها، قامت أجهزة الدولة الإسلامية على ثلاثة عشر جهازا هي:
1- الخليفة، 2- المعاونون (وزراء التفويض)، 3- وزراء التنفيذ، 4- الولاة، 5- أمير الجهاد (الجيش)، 6- الأمن الداخلي، 7- الخارجية، 8- الصناعة، 9- القضاء، 10- مصالح الناس، 11- بيت المال، 12- الإعلام، 13- مجلس الأمة (الشورى والمحاسبة)[1].
وبالتالي فإن نصيب الأحكام الشرعية المتعلقة بالأفراد من إجمالي الأحكام الشرعية التي أوجب الله على المسلمين تطبيقها بالكاد يصل إلى عشرة بالمائة من مجمل أحكام الإسلام، وبالتالي فإن في إقامة الدولة الإسلامية إقامة للإسلام، وفي ضياع الدولة ضياعٌ للإسلام،
ويصدِّقُ ذلك أقوال السادة العلماء نذكر منها:
يقول الجرجاني: (نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين).
يقول ابن تيمية في كتاب السياسة الشرعية، ومجموع الفتاوى: يجب أن يعرف أن ولاة أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من الحاجة إلى رأس حتى قال النبي ﷺ: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم» رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمر.
قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته حين مات رسول الله ﷺ وولي الخلافة من بعده: ألا إن محمدا قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به.
وقال الدارمي في سننه: أخبرنا يزيدُ بنُ هارونَ، نا بقيةُ حدّثني صفوانُ بنُ رُسْتُمَ، عَنْ عبدِ الرحمنِ بنِ ميسرَةَ، عن تميمٍ الداريّ،، قالَ: تطاوَلَ الناسُ في البناءِ في زَمَنِ عُمَرَ، فقالَ عُمَرُ: يا مَعْشَرَ العريبِ الأرضَ الأرضَ إنه لا إسْلامَ إلاَّ بِجَمَاعَةٍ، ولا جماعَة إلاَّ بإِمارَة، ولا إِمَارَة إلاَّ بطاعةٍ، فمن سوَّدَهُ قَوْمُهُ على الفِقْهِ كانَ حياةً لَهُ ولَهُمْ، وَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ على غيرِ فِقْهٍ كان هلاكاً لَهُ وَلَهُمْ. ورواه ابن عبد البر القرطبي في جامع بيان العلم وفضله.
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور في (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام): “فإقامة حكومة عامة وخاصة للمسلمين أصل من أصول التشريع الإسلامي ثبت ذلك بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة بلغت مبلغ التواتر المعنوي. مما دعا الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ إلى الإسراع بالتجمع والتفاوض لإقامة خلف عن الرسول في رعاية الأمة الإسلامية، فأجمع المهاجرون والأنصار يوم السقيفة على إقامة أبي بكر الصديق خليفة عن رسول الله للمسلمين. ولم يختلف المسلمون بعد ذلك في وجوب إقامة خليفة إلا شذوذا لا يُعبأ بهم من بعض الخوارج وبعض المعتزلة نقضوا الإجماع فلم تلتفت لهم الأبصار ولم تصغ لهم الأسماع. ولمكانة الخلافة في أصول الشريعة ألحقها علماء أصول الدين بمسائله، فكان من أبوابه الإمامة. قال إمام الحرمين [أبو المعالي الجويني] في الإرشاد: (الكلام في الإمامة ليس من أصول الاعتقاد، والخطر على من يزل فيه يربى على الخطر على من يجهل أصلا من أصول الدين)”. انتهى قول ابن عاشور،
ومعنى كلام الجويني أن الإمامية إذ جعلوا الأمامة من أصول الاعتقاد فإنها ليست منه، ولكن الخطأ في الزلل فيها يناهز الخطر في الزلل في أصول الدين لأهميتها.
يقول الهيثمي في الصواعق المحرقة: “اعلم أيضاً أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن الرسول ﷺ.”
وقال أبو بكر الأنصاري في غاية الوصول في شرح لب الأصول: (ويجب على الناس نصب إمام) يقوم بمصالحهم كسدّ الثغور وتجهيز الجيوش وقهر المتغلبة والمتلصصة لإجماع الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات، وقدّموه على دفنه ﷺ ولم يزل الناس في كل عصر على ذلك.
وقال محمد بن أحمد بن محمد بن هاشم المحلي المصري الشافعي جلال الدين المفسر الفقيه المتكلم الأصولي النحوي في كتابه شرح المحلي على جمع الجوامع: ويجبُ على النَّاسِ نَصْبُ إمامٍ يقوم بمصالحهم كسد الثغور وتجهيز الجيوش وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق وغير ذلك لإجماع الصحابة بعد وفاة النبي على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات وقدموه على دفنه ولم يزل الناس في كل عصر على ذلك.
جاء في كتاب «غاية البيان شرح زبد ابن رسلان» للفقيه الشافعي شمس الدين محمد بن أحمد الرملي الأنصاري الملقب بالشافعي الصغير (وهو من علماء القرن التاسع الهجري) ما يلي: (يجب على الناس نصب إمام يقوم بمصالحهم، كتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم أن دفعوها وقهر المتغلبة والمتلصصة وقطاع الطريق وقطع المنازعات الواقعة بين الخصوم وقسمة الغنائم وغير ذلك، لإجماع الصحابة بعد وفاته ﷺ على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات، وقدموه على دفنه ﷺ ولم تزل الناس في كل عصر على ذلك).
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، قال القرطبي محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله، القرطبي: من كبار المفسرين، صالح متعبد. من أهل قرطبة. رحل إلىَ الشرق واستقرّ بمنية ابن خصيب (في شمالي أسيوط، بمصر) وتوفي فيها، قال في تفسيره: هذه الآية أصلٌ في نَصْب إمامٍ وخليفة يُسْمَع له ويطاع؛ لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما رُوي عن الأصَمّ حيث كان عن الشريعة أصَمَّ، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه[2]، قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفَيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على مَن وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك انتهى، فالإمام القرطبي يرى أن من يقول بجواز خلو منصب الخليفة فإنه عن الشريعة أصم، وأنه لا يمكن أن يحل محل الخلافة أن يقوم الناس بالتناصف فيما بينهم وأن يقيموا الحدود فيما بينهم، كيف لا وذلك الأمر للخليفة أو من يقيمه الخليفة من قاض أو وال كما سيأتي، ولا يحق لآحاد الرعية أن يقوموا بشيء من ذلك إذ لا سلطان لهم يخولهم بهذا[3].
وقال ابن حزم (في الفصل في الملل والأهواء والنحل): “اتفق جميع أهل السنة وجميع الشيعة، وجميع الخوارج (ماعدا النجدات منهم) على وجوب الإمامة”
يقول الماوردي في الأحكام السلطانية ص3: (عقد الإمامة لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع ) ويقول أيضاً في نفس الكتاب ( ويجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت وزعيم الأمة ليكون الدين محروساً بسلطانه جارياً على سنن الدين وأحكامه ).
قال الكاساني في بدائع الصنائع: فنصب القاضي فرض لأنه ينصب لإقامة أمر مفروض وهو القضاء قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يا دَاوُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ﴾، وقال تبارك وتعالى لنبينا المكرم عليه أفضل الصلاة والسلام: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ الله﴾.
والقضاء هو: الحكم بين الناس بالحق والحكم بما أنزل الله عز وجل، فكان نصب القاضي لإقامة الفرض فكان فرضاً ضرورة، ولأن نصب الإمام الأعظم فرض بلا خلاف بين أهل الحق، ولا عبرة بخلاف بعض القدرية لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك ولمساس الحاجة إليه لتقيد الأحكام وإنصاف المظلوم من الظالم وقطع المنازعات التي هي مادة الفساد، وغير ذلك من المصالح التي لا تقوم إلا بإمام لما علم في أصول الكلام. ومعلوم أنه لا يمكنه القيام بما نصب له بنفسه فيحتاج إلى نائب يقوم مقامه في ذلك وهو القاضي، ولهذا كان رسول الله: «يَبْعَثُ إلى الآفَاق قُضَاةً فبعث سيدنا معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة» فكان نصب القاضي من ضرورات نصب الإمام فكان فرضاً، وقد سماه محمدُّ فريضة محكمة لأنه لا يحتمل النسخ لكونه من الأحكام التي عرف وجوبها بالعقل، والحكم العقلي لا يحتمل الانتساخ والله تعالى أعلم.
والصحيح أن هذا الفرض علم من موجبات الأدلة السمعية، ولا يستدرك بموجبات العقول:
قال إمام الحرمين أبو المعالي: “لا يستدرك بموجبات العقول نصب إمام ولكن يثبت بإجماع المسلمين وأدلة السمع وجوب نصب إمام في كل عصر يرجع إليه في الملمات وتفوض إليه المصالح العامة (والأمر بالمعروف)”.
وقال عبد الرحمن بن محمد بن محمد، ابن خلدون أبو زيد، في مقدمته: “ثم إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله ﷺ عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم وكذا في كل عصر من بعد ذلك، ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام”.
قال د. ضياء الدين الريّس في كتابه: الإسلام والخلافة ص 348: “والإجماع كما قرروه أصل عظيم من أصول الشريعة الإسلامية وأقوى إجماع أو أعلاه مرتبة هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم لأنهم هم الصف والرعيل الأول من المسلمين، وهم الذين لازموا الرسول ﷺ واشتركوا معه في جهاده وأعماله وسمعوا أقواله فهم الذين يعرفون أحكام وأسرار الإسلام وكان عددهم محصوراً وإجماعهم مشهوراً وهم قد أجمعوا عقب أن لحق الرسول ﷺ بالرفيق الأعلى على أنه لا بد أن يقوم من يخلفه واجتمعوا ليختاروا خليفته ولم يقل أحد منهم أبداً أنه لا حاجة للمسلمين بإمام أو خليفة فثبت بهذا إجماعهم على وجوب وجود الخلافة وهذا هو أصل الإجماع الذي تستند إليه الخلافة”.
وقال د. ضياء الدين الريس في كتابه الإسلام والخلافة ص99: “فالخلافة أهم منصب ديني وتهم المسلمين جميعاً، وقد نصت الشريعة الإسلامية على أن إقامة الخلافة فرض أساسي من فروض الدين بل هو الفرض الأعظم لأنه يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض”،
وقال أيضاً في ص 341: “إن علماء الإسلام قد أجمعوا كما عرفنا فيما تقدم ـ على أن الخلافة أو الإمامة فرض أساسي من فروض الدين بل هو الفرض الأول أو الأهم لأنه يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض وتحقيق المصالح العامة للمسلمين ولذا أسموا هذا المنصب «الإمامة العظمى» في مقابل إمامة الصلاة التي سميت «الإمامة الصغرى» وهذا هو رأي أهل السنة والجماعة وهم الكثرة العظمى للمسلمين وهو إذاً رأي كبار المجتهدين: الأئمة الأربعة والعلماء أمثال الماوردي والجويني والغزالي والرازي والتفتازاني وابن خلدون وغيرهم وهم الأئمة الذين يأخذ المسلمون عنهم الدين وقد عرفنا الأدلة والبراهين التي استدلوا بها على وجوب الخلافة”.
ثم نقل عن الشهرستاني قوله: “وما دار في قلبه (أي الصديق) ولا في قلب أحد أنه يجوز خلو الأرض عن إمام فدلّ ذلك كله على أن الصحابة وهم الصدر الأول كانوا على بكرة أبيهم متفقين على أنه لا بد من وجوب الإمامة”.
وقال الشيخ علي بلحاج في كراسته “إعادة الخلافة من أعظم واجبات الدين”: “الخلافة على منهج النبوة” كيف لا وقد قرر علماء الإسلام وأعلامه أن الخلافة فرض أساسي من فروض هذا الدين العظيم بل هو “الفرض الأكبر” الذي يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض، وإن الزهد في إقامة هذه الفريضة من “كبائر الإثم”، وما الضياع والتيه والخلافات والنزاعات الناشبة بين المسلمين كأفراد وبين الشعوب الإسلامية كدول إلا لتفريط المسلمين في إقامة هذه الفريضة العظيمة،”
[1] أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة، حزب التحرير، وهناك على سبيل المثال تفصيل لأجهزة الدولة في كتاب أحكام القرآن للقاضي ابن العربي أوردها في تفسير سورة ص، ونقل فيها آراء بعض الفقهاء، وغني عن القول تفصيلات كتب الماوردي وغيره في الأحكام السلطانية.
([2] ) أي أن من يوافق الأصم في أن الخلافة غير واجبة، فهو مثله عن الشريعة أصم!
[3] يقول الفيلسوف بسوت: Bossuet”حيث يملك الكل فعل ما يشاءون لا يملك أحد فعل ما يشاء، وحيث لا سيد، فالكل سيد، وحيث الكل سيد فالكل عبيد” انتهى، لذا كان لابد للمجتمع من دولة ونظام يحكم العلاقات بين الناس ويفرض الأمان في المجتمع. وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ قال: فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه. ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذْ كانت إقامة الحدود إليه، والتعْزيز إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب؛ فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة. وقال ابن كثير في تفسيره: وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلوهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.