الجهاز الإداري

 

أجهزة دولة الخلافة

عاشراً: الجهاز الإداري (مصالح الناس)

إدارة شؤون الدولة ومصالح الناس تتولاها مصالح ودوائر وإدارات، تقوم على النهوض بشؤون الدولة، وقضاء مصالح الناس. ويُعيَّن لكل مصلحة مدير عام، ولكل دائرة وكل إدارة مدير يتولى إدارتها، ويكون مسؤولاً عنها مباشرة، ويكون هؤلاء المديرون مسؤولين أمام مَن يتولّى الإدارة العُليا لمصالحهم أو دوائرهم أو إداراتهم، مِن حيث عملهم، ومسؤولين أمام الوالي والعامل من حيث التقيد بالأحكام والأنظمة العامة.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدير المصالح ويعين كتاباً لإدارتها، فكان عليه الصلاة والسلام يدير مصالح الناس في المدينة، يرعى شؤونهم، ويحل مشاكلهم، وينظم علاقاتهم، ويؤمن حاجاتهم، ويوجههم فيها لما يصلح أمرهم. وكل هذه من الشؤون الإدارية التي تيسر عيشهم دون مشاكل أو تعقيد:
ففي أمور التعليم، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فداء الأسرى من الكفار تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل الفداء هو من الغنائم، وهي ملك للمسلمين؛ فكان تأمين التعليم مصلحة من مصالح المسلمين.

وفي التطبيب، أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، طبيب فجعله للمسلمين، فكون رسول الله صلى الله عليه وسلمجاءته هدية فلم يتصرف بها، ولم يأخذها، بل جعلها للمسلمين، دليل على أن التطبيب مصلحة من مصالح المسلمين.

وفي شؤون العمل، فقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلاً أن يشتري حبلاً ثم فأساً، ويحتطب ويبيع للناس بدل أن يسألهم، هذا يعطيه وهذا يرده، فكان حل مشاكل العمل كذلك مصلحة للمسلمين. أخرج أحمد والترمذي وحسنه «أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى… قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيده فقال: من يشتري هذين؟… قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، فأعطاهما للأنصاري وقال: اشترِ بأحدهما فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخر قدوماً فائتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلمعوداً بيده ثم قال: اذهبْ واحتطبْ وبعْ، فلا أرينك خمسة عشر يوماً، ففعل، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم…» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه البخاري: «لأن يأخذ أحدكم أحبلة، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره، فيبيعها، فيكف بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه».

وفي شؤون الطرق، فقد نظم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الطرق في وقته بأن جعل الطريق سبعة أذرع عند التنازع. روى البخاري من طريق أبي هريرة «قضى النبي صلى الله عليه وسلم، إذا تشاجروا في الطريق الميتاء بسبعة أذرع»، ورواية مسلم «إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبعة أذرع» وهو تنظيم إداري في ذلك الوقت، وإذا كانت الحاجة لأكثر كان، كما في مذهب الشافعي.

وكذلك منع الرسول صلى الله عليه وسلم، العدوان على الطريق، أخرج الطبراني في الصغير «من أخذ من طريق المسلمين شبراً طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين».

وفي الزراعة، فقد اختلف الزبير رضي الله عنه ورجل من الأنصار في السقي من سيل ماء يمر من أرضهما، فقال صلى الله عليه وسلم، : «اسقِ يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» متفق عليه واللفظ لمسلم.

وهكذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يدير مصالح المسلمين ويحل مشاكلهم الإدارية بسهولة ويسر، وكان يستعين ببعض الصحابة في ذلك. فتكون مصالح الناس جهازاً يتولاه الخليفة أو يعين له مديراً كفؤاً يتولاه، وهذا ما نتبناه، تخفيفاً للعبء عن الخليفة، وبخاصة وقد تشعبت المصالح وتكاثرت، فيكون هناك جهاز لمصالح الناس يتولاه على وجهه مدير كفؤ بأساليب ووسائل تيسر على الرعية عيشها، ويوفر لها الخدمات اللازمة دونما تعقيد بل بسهولة ويسر.

وهذا الجهاز يتكوّن مِن مصالح، ودوائر، وإدارات. والمصلحة هي الإدارة العليا لأية مصلحة مِن مصالح الدولة، كالتابعية، والمواصلات، وسك النقود، والتعليم، والصحة، والزراعة، والعمل، والطرق، وغيرها. وهذه المصلحة تتوَلّى إدارة المصلحة ذاتها، وما يتبعها مِن دوائر وإدارات. والدائرة هي التي تتوَلّى شؤون الدائرة نفسها، وما يتبعها من إدارات. والإدارة هي التي تتوَلّى شؤون الإدارة ذاتها، وما يتبعها من فروع وأقسام.

وهذه المصالح والدوائر والإدارات إنما تُنشَأ وتُقام لأجل النهوض بشؤون الدولة، ولأجل قضاء مصالح الناس.

ولضمان سير هذه المصالح والدوائر والإدارات لا بُدَّ مِن تعيين مسؤولين لها. فيُعيَّن لكل مصلحة مدير عام يتوَلّى إدارة شؤون المصلحة مباشرة، ويشرف على جميع الدوائر والإدارات التابعة لها. ويُعيّن لكل دائرة، ولكل إدارة، مدير يكون مسؤولاً عنها مباشرة، وعمّا يتبعها مِن فروع وأقسام.

|
  • الجهاز الإداري أسلوب إدارة وليس حكماً:

الجهاز الإداري أسلوب من أساليب القيام بالفعل، ووسيلة من وسائله، فلا يحتاج إلى دليل خاص به، ويكفي الدليل العام الذي يدل على أصله، ولا يقال إن هذه الأساليب أفعال للعبد فلا يصح أن تجري إلا حسب الأحكام الشرعية؛ لا يقال ذلك لأن هذه الأفعال جاء الدليل الشرعي على أصلها عاماً، فيشمل كل ما يتفرع عنها من الأفعال، إلا أن يأتي دليل شرعي على فعـل متفرع عن الأصل فحينئذٍ يتبع حسب الدليل، فمثلاً قال تعالى: {وَآتُواْ الزَّكَاةَ}[043:001] وهو دليل عام. وجاءت الأدلة على الأفعال المتفرعة عنها، لمقدار النصاب، وللعاملين، وللأصناف التي تؤخذ منها الزكاة، وكلها أفعال متفرعة عن: {وَآتُواْ الزَّكَاةَ}[043:001] ولم تأتِ أدلة لكيفية قِيام العمال بجمعها، هل يذهبون راكبين أو ماشين؟ هل يستأجرون معهم أجراء لمساعدتهم أو لا؟ وهل يحصونها بدفاتر؟ وهل يتخذون لهم مكاناً يجتمعون فيه؟ وهل يتخذون مخازن لوضع ما يجمعونه فيها؟ وهل تُوضع هذه المخازن تحت الأرض أو تُبنى كالبيوت للحبوب؟ وهل زكاة النقد تجمع بأكياس أو بصناديق؟ فهذه وأمثالها أفعال متفرعة عن: {وَآتُواْ الزَّكَاةَ}[043:001] ويشملها الدليل العام؛ لأنه لم تأت أدلة خاصة بها. وهكذا جميع الأساليب. فالأسلوب هو الفعل الذي يكون فرعاً لفعل قد جاء له -أي للأصل- دليلٌ عام. ولم يأت لهذا الفرع دليل خاص به؛ فيكون دليل أصله العام دليلاً عليه.

ولذلك فإن الأساليب الإدارية يمكن أخذها من أي نظام إلا إذا ورد نص خاص بمنع أسلوب إداري معين، وما عدا ذلك فيجوز أخذ الأساليب الإدارية، إن كانت مناسبةً لتيسير عمل الأجهزة الإدارية وقضاء مصالح الناس؛ لأن الأسلوب الإداري ليس حكماً يحتاج إلى دليل شرعي؛ ولهذا فقد أخذ عمر رضي الله عنه أسلوب الديوان، في تسجيل أسماء الجند والرعية، من أجل توزيع الأموال عليهم من الملكية العامة أو ملكية الدولة كأعطيات أو رواتب.

روى عابد بن يحيى عن الحارث بن نُفْيل أن عمر رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: تَقسِم كل سنة ما اجتمع إليك مِن المال، ولا تُمسِك منه شيئاً. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه أرى مالاً كثيراً يسع الناس، فإن لم يُحصَوا حتى يُعرَف مَن أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فقال الوليد بن هشام بن المغيرة: قد كنت بالشام، فرأيت ملوكها قد دَوَّنوا ديواناً، وجَنَّدوا جنوداً، فَدوِّن ديواناً، وجَنّد جنوداً، فأخذ بقوله، ودعا عَقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من نُسّاب قريش، وقال: «اكتبوا الناس على منازلهم».
ثم بعد ظهور الإسلام في العراق، جرت الدواوين على ما كانت عليه من قبل. فكان ديوان الشام بالرومية؛ لأنه كان من ممالك الروم. وكان ديوان العراق بالفارسية؛ لأنه كان من ممالك الفرس. وفي زمن عبد الملك بن مروان نقل ديوان الشام إلى العربية سنة إحدى وثمانين هجرية. ثم تتابع إنشاء الدواوين حسب الحاجة، وما تقتضيه مصالح الرعية. فكانت الدواوين التي تختص بالجيش من إثبات وعطاء، وكانت الدواوين التي تختص بالأعمال من رسوم وحقوق، وكان الديوان الذي يختص بالعمال والولاة من تقليد وعزل، وكانت الدواوين التي تختص ببيت المال من دَخل وخَرج، وهكذا. فكان إنشاء الديوان متعلقاً بالحاجة إليه، وكان أسلوبه يختلف من عصر إلى عصر، لاختلاف الأساليب والوسائل.

وكان يُعيَّن للديوان رئيس، ويُعيَّن له موظفون، وكانت تُسنَد لهذا الرئيس صلاحية تعيين موظفيه في بعض الأحيان، ويُعيَّنون له تعييناً في أحيان أخرى.

وعلى ذلك فإنه يُـتَّـبَـعُ في إنشـاء إدارة المـصـالح، أو ما يسـمى بالديوان، الحاجةُ، وما ينهض بأعباء هذه الحاجة من أساليب العمل، ووسائل القيام به، ويجوز أن تختلف في كل عصر، وأن تختلف في كل ولاية، وأن تختلف في كل بلد.

هذا من حيث إنشاء إدارة المصالح، أو إنشاء الديوان، أما من حيث مسؤولية هؤلاء الموظفين، فإنهم أجراء، وفي الوقت نفسه رعايا، فهم من حيث كونهم أجراء، أي من حيث قيامهم بعملهم، مسؤولون أمام رئيسهم في الدائرة، أي أمام مدير الدائرة. ومن حيث كونهم رعايا مسؤولون أمام الحكام من ولاة ومعاونين، ومسؤولون أمام الخليفة، ومقيدون بأحكام الشرع، وبالأنظمة الإدارية.

 

  • سياسة إدارة المصالح:

سياسة إدارة المصالح تقوم على البساطة في النظام، والإسراع في إنجاز الأعمال، والكفاية فيمن يتولون الإدارة. وهذا مأخوذ من واقع إنجاز المصلحة، فصاحب المصلحة إنما يبغي سرعة إنجازها، وإنجازها على الوجه الأكمل، والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح…» رواه مسلم من طريق شداد بن أوس. فالإحسان في قضاء الأعمال مأمور به من الشرع، وللوصول إلى هذا الإحسان في قضاء المصالح لا بد من أن تتوفر في الإدارة ثلاث صفات: إحداها: البساطة في النظام؛ لأنها تؤدي إلى السهولة واليسر، والتعقيد يوجد الصعوبة. وثانيتها: الإسراع في إنجاز المعاملات؛ لأنه يؤدي إلى التسهيل على صاحب المصلحة. وثالثتها: القدرة والكفاية فيمن يُسنَد إليه العمل، وهذا يوجبه إحسان العمل، كما يقتضيه القيام بالعمل نفسه.

 

  • َمن له حقّ التوظف في الجهاز الإداري:

لكل من يحمل التابعية، وتتوفر فيه الكفاية، رجلاً كان أو امرأة، مسلماً كان أو غير مسلم، أن يُعيَّن مديراً لإدارة أيَّة مصلحة من المصالح، وأن يكون موظفاً فيها.

وذلك مأخوذ من أحكام الإجارة، لأن المديرين والموظفين في الدولة أجراء وفق أحكام الإجارة، فيجوز استئجار الأجير مطلقاً، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم؛ وذلك لعموم أدلة الإجارة وإطلاقها، فالله تعالى يقول: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}[006:065] وهو عام، غير مخصص بالمسلم، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ، قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة… ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره» وهو مطلق غير مقيد بالأجير المسلم، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم، ، استأجر رجلاً من بني الدِّيل، وهو على دين قومه. وهذا يدل على جواز إجارة غير المسلم كإجارة المسلم. وكذلك يجوز استئجار المرأة كما يجوز استئجار الرجل، لعموم الأدلة وإطلاقها أيضاً، فيجوز للمرأة أن تكون مديرة دائرة في دوائر الدولة، وأن تكون من الموظفين فيها، ويجوز لغير المسلم أن يكون مديراً لدائرة من دوائر الدولة، وأن يكون موظفاً من الموظفين؛ لأنهم أُجراء، وأدلة الإجارة عامة ومطلقة.

 

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة