سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الرابعة والعشرون: مقاصد وغايات للتشريع وسن القوانين لا بد من بيانها قبل الإجابة على السؤال: لمن الحق بالتشريع؟
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الرابعة والعشرون: مقاصد وغايات للتشريع وسن القوانين لا بد من بيانها قبل الإجابة على السؤال: لمن الحق بالتشريع؟
الدولة كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات عند أمة من الأمم، أي القيم والمقاصد التشريعية للسلطان والحكم، ستجد تجلي فهم هذا التعريف في التحليل التالي بإذن الله تعالى:
بدراسة المراجع الشرعية الإسلامية، والقانونية الوضعية، نجد أن المشرع يضع للقوانين أهدافاً مرادًة من ورائها، وحِكَما باعثة عليها، وأسبابا[1] ومقاصد دافعة اليها[2]، أي سيضع مقاييس للقوانين والتشريعات، وتشكل الإطار الذي تتحرك في نطاقه كافة القوانين في مختلف مجالات الحياة[3]، فالقوانين – شرعية كانت أم وضعية- إنما وضعت لتكون خادمة للقيم التي يراد لها أن تسود في حياة الناس[4]، (أي المفاهيم والقناعات التي يقوم عليها السلطان أي الدولة)، كقيمة العدالة، (قيل: العدل أساس الملك)، وهذه القيم نفسها تختلف باختلاف العقائد التي تقوم عليها المجتمعات، وهنا مربط فرسٍ، فقد تكون القيم هذه مُضَلِّلَة، لا تعدو أن تكون شعارات لا واقع لها، فكان الأصل أن تقوم الدول على عقائد صحيحة قبل النظر في صحة تشريعاتها وقوانينها، لذلك فإن قيام الدولة على عقائد منقوضة فكريا كالعلمانية[5]، أو مستحيلة الوجود عمليا، كالديمقراطية[6]، يضع المشرّعين في تلك الدول أمام عقبة كأداء، وهي استحالة قيام القيم التي تَدَّعِي الدولةُ تحقيقها، ومن ثم فالقانون الذي لا يخدم القيم ولا يساعد على حمايتها في المجتمع، يصبح بلا فاعلية ولا فعالية، فإن كانت القيم نفسها خطأ أو مستحيلة التحقيق كانت القوانين خطأ لبنائها على الخطأ، فكان لا بد من وجود معايير قابلة للتحقيق، وقيم يرجع إليها المجتمع لتنظيم السلوك الاجتماعي وفك التصادمات والحفاظ على الحقوق المشروعة لكل فرد.
يمكننا أن نلخص بعض المقاصد والغايات التي يقوم التشريع بمراعاة تحقيقها بغية تنظيم علاقات الإنسان بنفسه وبغيره وبالمجتمع وبالدولة، وفق قواعد معيارية ملزمة تحقق التوازن والتناسق بين المصالح المختلفة لأفراد المجتمع، إذ أن غاية التشريع أو التقنين العامة في جميع القوانين وفي كل زمان ومكان: إيجاد تنظيم لمختلف العلاقات التشريعية أو القانونية بصفة دائمة ومستمرة، بغية حصول العدالة بين أفراد المجتمع الذين ما جاء ذلك القانون إِلاَّ لتنظيم حياتهم وضبط سلوكهم بسلطة الدولة لضمان استقرار اجتماعهم،
ويقوم الفقيه أو المجتهد أو القاضي أو القانوني بدراسة الواقع المراد الحكم عليه، ومن ثم يدرس النصوص الشرعية أو القانونية (الدستورية) المتعلقة بذلك الواقع، وينزل الحكم على الواقع، وخلال ذلك يقوم باستحضار تلك المقاصد وتذكر عللها ومناطاتها وحِكمها حين استنباط الحكم!
فالغاية من هذا التشريع هو تحقيق مقاصد معينة[7] من جملتها: إحقاق الحق، والعدل والإنصاف، ومنع الظلم، والقيام بالفعل الأصلح الذي يشبع الغريزة والحاجة العضوية إشباعا صحيحا، والذي يصلح للناس ويصلحهم، ويطيقونه، ويرفع عنهم الحرج، ويراعي المقاصد الثمانية[8] الضرورية للإنسان وهي: حفظ النفس والمال والدين والعقل والنسل، وحفظ الدولة، وحفظ الأمن، وحفظ الكرامة الإنسانية، وقد يضاف إليها (على خلاف[9]) جلب المصالح، ودرء المفاسد[10]، وقد يضيف أصحاب القوانين الوضعية[11] إلى هذه تحقيق ما يسمى بحقوق الإنسان، والحق في المساواة وغيرها من المقاصد.
وحين ننظر إلى التشريعات الجنائية، فإننا سنجد أن الأصل فيها تحقيق عقوبات وفاقا للجرائم، رادعة عن ارتكابها، وجابرة للذنب (ديات، تعويضات، أرش،… الخ)، لتزجر المجتمع عن ارتكاب الجريمة، ولتجبر ذنب المذنب، وتعوض المجني عليه بما يكافؤ خسارته، وتحفظ الحق العام!
والاهتمام بمقاصد القانون وفهمها، وتجانسها مع عقيدة الأمة، والإحساس بقدرتها على بسط العدالة في المجتمع، وإحقاق الحقوق تساهم في احترامها طواعية انطلاقا من قوة الوازع وليس خوفا من الرادع!
لقد قامت أمريكا في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم بإصدار قانون صارم يحرم الخمر، وفرضت العقوبات الصارمة عليها، ولم يزدد المجتمع الأمريكي في الخمر إلا ولوعا، مع كل الدراسات التي قدمت والتي تبين مضارها، وكذا حصل في الاتحاد السوفياتي أيام غورباتشوف، بينما ترى أن ملياري مسلم يمتنعون عن الخمر طواعية جراء وجود مفاهيم العقيدة لديهم والتي تحرِّمُها مع بعض الشواذ القليلين عن القاعدة، مما ينبيك أن أكبر مؤثر على السلوك هو المفاهيم عن الحياة.
فكما ترى، سنجد أول عقبة تواجه البشر حين التشريع أن الغايات التي يراد تحقيقها من سن القوانين مختلف فيها، وفي طبيعتها، وفي تفسيرها وفي كيفية تحقيقها، وفي التعامل مع الترجيح بين تلك القيم حين اصطدام القوانين بها فتخدم بعضها وتتعارض مع بعض[12]!، (مثلا: الخصوصية- الأمن) وإمكانية مراعاتها حين سن قوانين كثيرة ينقض أعلاها أسفلها، وأولها آخرها، فهذه أول عقبة تكرس عدم قدرة الإنسان على التشريع الصحيح! فاحفظها!
وكما ترى، فإن المشرع الغربي اصطدم بواقع دوام تطور المجتمع وتغير نظرته، وتغير ما يسمى بالمصالح العامة وفقا لذلك، ودور الإعلام في تكريس قيم معينة كانت ممنوعة زمنا ثم شاء من شاء من المتنفذين تغيير نظر ة المجتمع لها (كمثال: نظرة المجتمع لحقوق الشواذ، وكمثال: نظرة المجتمع للمخدرات واستعمال القنب الهندي)، وهذا جعلهم لا يلقون بالا كثيرا إلى تكريس النظرة المقاصدية، وإلى وضع التعريفات الدقيقة لكل مقصد بعينه، وكيفية مراعاته، فالمقاصد نفسها عندهم قابلة للتغيير، (وأغلب مقاصدهم أخذوها من الشريعة الإسلامية[13]) فكيف بالقوانين التي تخدم تلك المقاصد!
إن عدم وضوح الغاية الأساسية لوضع القوانين عند الغربيين، سيؤدي حتما إلى استغلال القانون استغلالا سيئا يفقده مصداقيته وحياده في كثير من الأحيان، ولذلك فإن وضوح الغاية من القانون ومعرفة أبعادها يسلب الفرصة من الذين يمتلكون النفوذ والقوة في ترجمة القانون حسب منافعهم الذاتية[14]، فإذا كانت الغايات نفسها ملساء متقلبة متغيرة، فإن الخرق في استغلال القوانين سيتسع على الراتق حتما!
[1] بالنسبة للشريعة الإسلامية نعني بالمقاصد والأسباب هنا: النتيجة التي تترتب على الشريعة، أي الحكمة الناتجة عن تطبيقها، وليس الباعث على تشريعها، أي غاية الشارع التي يهدف إليها من تشريع الشريعة، لا العلة بمفهومها الأصولي، ولا تلتمس العلة الباعثة على التشريع، ولا الحكمة إلا إذا ذكرهما الشارع، وقد جاءت آيات تبين غايات كلية وحكما تنتج عن تطبيق الشريعة مثل كونها رحمة، ومثل قيام الناس بالقسط، وما شابه، وقد استنبط الفقهاء مقاصد للشريعة كما هو مقرر في كتب الأصول، وليس البحث هنا في كل حكم شرعي، إنما في مقاصد الشريعة ككل، وأثر تلك المقاصد على القوانين الضابطة للعلاقات في المجتمع.
[2] من العلوم القانونية الموازية لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية علم فلسفة القانون الذي صار يحتل مكانة رائدة في الدراسات القانونية الغربية تحت مسمى: Legal philosophy، نظرا لطبيعة موضوعاته التي تركز على الاهتمام بدراسة الغايات والحكم التي تكمن وراء النظم القانونية والكشف عن العلاقة بين القانون والمجتمع، وهي عموما تدور حول: حماية حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة والصالح العام؛ والاستقرار القانوني والأمن القانوني وكل هدف له أسس يقوم عليها ووسائل تؤدي إلى تحقيقه. أنظر: مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة الإسلامية، بقلم د. عليان بوزيان منشور في العدد 150 من مجلة المسلم المعاصر.
[3] أنظر فصل: إقامة الخلافة من مقاصد الشريعة الكبرى
[4] من أهم وأجل القيم الإسلامية قيمة تحقيق العبودية لله وحده دون غيره، بمفهوم العبودية الواسع، وبمفهومها الخاص بموضوع التشريع، واعتبار التشريع حقا له وحده، وأن اتباع الناس بعضهم بعضا في التشريع هو بمثابة اتخاذهم أربابا من دون الله!
[5] راجع كتابنا: الإسلام، الديمقراطية، العلمانية، الليبرالية، والرأسمالية مقارنة للأسس الفكرية، مسودة، والذي نرجو الله أن يعجل إخراجه كتابا عن قريب ان شاء الله، فيه تفاصيل هذه المسألة.
[6] من ضمن القيم التي تقوم عليها الديمقراطية وتتوقف الديمقراطية عليها وجودا وعدما: أولها: تحكيم رأي الأغلبية في المجتمع، ومنع تركز السلطات بيد الأقلية، أو استغلالها، وتمثيل السلطات لرأي الشعب، وهذه القيم الثلاث يستحيل تحقيقها في الواقع، والنظام الغربي كله قائم على تمازج وتداخل السلطات وتركيزها بيد الأحزاب الحاكمة، والتشريعات يقوم بها قلة من فقهاء القانون والقضاة، ولا يرجع إلى الشعب إلا في أقل القليل منها، وللموضوع تفاصيل كثيرة جدا يصعب حصرها هنا، ولكن الديمقراطية فلسفة خيالية مضللة، يستحيل أن توجد في أرض الواقع!
[7] يراجع فصل مقاصد الشريعة في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث أصول الفقه للعلامة تقي الدين النبهاني رحمه الله، ففيه تفصيلات لفهم ما نعنيه بمقاصد الشريعة وضوابط يصعب حصرها هنا حتى يفهم سياق كلامنا في ضوء تلك الضوابط.
[8] استنبط الإمام الشاطبي خمسة مقاصد ضرورية: هي حفظ النفس والمال والدين والعقل والنسل، وأضاف لها الإمام تقي الدين النبهاني مقصد حفظ الأمن، ومقصد حفظ الدولة، ومقصد حفظ الكرامة الإنسانية، باستنباطها من خلال تشديد العقوبة على مقترف جريمة تمس بها شرعا، فالخارج على الدولة بالسلاح يقاتل، ومن يشق عصا الطاعة ويبايع خليفة ثانيا يقتل، وغيرها من الأحكام والتفصيلات يراجع فيها كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث، فأضحت المقاصد الضرورية ثمانية.
[9] يراجع في كتاب الشخصية الإسلامية الجزء الثالث أصول الفقه للعلامة تقي الدين النبهاني رحمه الله، فصل: جلب المصالح ودرء المفاسد ليسا علة للشريعة بوصفها كلاً ولا علة لأي حكم بعينه، ففيه تفصيل ممتع مهم.
[10] وذلك لأنّ جلب المصالح ودرء المفاسد ليسا علة للأحكام الشرعية مطلقاً، فإنه لم يرد أي نص يدل على أن جلب المصالح ودرء المفاسد علة للأحكام الشرعية، ولا ورد أي نص يدل على أنّها علة لحكم معين، فلا تكون علة شرعية.خصوصا وأن المصالح والمفاسد على الحقيقة مجهولان للإنسان، فيظن في أمر مصلحة وفيه ضرر والعكس، وبالتالي فالحكم على تقدير المصالح عقلا يتفاوت، مما يجعل المصلحة بحد ذاتها تابعة للحكم الشرعي ولا يُجعل الحكم الشرعي تابعا لها. وقولنا هذا لا يعني أن الشرع جاء ليضر بالخلق، ولكن المصلحة الحقيقية والصلاح الذي هو مدار الشرع، لا يكون بما تقدره العقول مصلحة، ولكن بترك تقدير المصلحة إلى الله وحيثما شرعه فثم الصلاح والمصلحة.
[11] ومن المعلوم أن المتشرع لم يضع القانون عبثاً واعتباطاً، وإنما ابتغى هدفاً مرادًا من ورائه، وحِكَما باعثة عليه، وأسبابا ومقاصد دافعة اليه، غير أن عناية فقهاء القانون الوضعي بمقاصد نصوصهم التشريعية أقل بكثير مما هو عند أهل الشريعة الإسلامية؛ وذلك لأن الداعي الذي قام عند فقهاء الشريعة لم يقم عند أهل القانون، وبيان ذلك أن التشريع الوضعي قابلٌ للتعديل والتغيير باستمرار، فليس بحاجة ماسَّة إلى نظرة مقاصدية، تستخرج منه الحِكَم والغايات المصلحية المقصودة منه، بل هذه الحكم والغايات نفسها عندهم تتغير من آن لآن، فما بالك بالتفصيلات القانونية؟ أنظر: مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة الإسلامية، بقلم د. عليان بوزيان منشور في العدد 150 من مجلة المسلم المعاصر. نقلا عن: د. محمد سليم العوا، فكرة المقاصد في التشريع الوضعي – مقاصد الشريعة وقضايا العصر-، منشورات مؤسسة الفرقان للتراث الثقافي، ط1، 2011، ص 271.
[12] وقد اصطدمت الدول الغربية الحديثة بهذه الثنائيات: الحرية – الأمن، الخصوصية – الأمن، تدخل الدولة في السوق – منع تدخلها، وهكذا، فأخذت تشرع قوانين تزيد من سلطة الدولة في مراقبة الأفراد والحد من حرياتهم وخصوصياتهم، مظنة إفسادهم في المجتمعات وتعديهم على الأمن العام والصالح العام، واحتج الناس على الدولة بأنها تتجسس عليهم، وهكذا تتعارض القيم التي يراد لها أن تكون مرجعية للقانون مع القوانين ومع أنظمة المجتمع!
[13] أنظر: مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة الإسلامية، بقلم د. عليان بوزيان منشور في العدد 150 من مجلة المسلم المعاصر.
[14] أنظر: مقاصد القانون الوضعي في ضــوء مقاصد الشريعة الإسلامية، بقلم د. عليان بوزيان منشور في العدد 150 من مجلة المسلم المعاصر.