سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الثالثة والخمسون: القرينة الثانية: من مقاصد الشريعة الكلية: إنزال الكتاب ليحكم وليقيم ميزان العدل والقسط والحكم بالحق
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الثالثة والخمسون: القرينة الثانية: من مقاصد الشريعة الكلية: إنزال الكتاب ليحكم وليقيم ميزان العدل والقسط والحكم بالحق
وقد بسطنا القول فيها في فصل سابق يحمل العنوان ذاته فراجعه.
فالله تعالى حرم الظلم على نفسه، وأقام ملكوت السموات والأرض على قاعدة العدل والقسط ومنع الظلم، «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا». ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [يونس: 47]، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].
وقد أنزل الله تعالى كتابا ليقوم الناس بالقسط، فلا يتحقق الحق ولا يقوم العدل إلا وفق الاحتكام لشرعه سبحانه وتعالى. ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ [البقرة: 213]، ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِم فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 71]. ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105]، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [المائدة: 48]، ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57]،
وتقرر شرعا أن النظام الذي يطبق الأحكام التي نزلت في الكتاب والسنة هو نظام الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول الكريم ﷺ والذي كان نظام الخلافة هو الامتداد الشرعي له، كما نصت على ذلك السنة المطهرة، فإقامة الخلافة إذن هي من صميم ما خلق الله تعالى البشر من أجله، عبادته وفق أوامره، والاحتكام لأحكامه ليقيموا العدل ويمتاز مؤمنهم من كافرهم، ومحسنهم من فاسقهم ممن فسق عن النظام الإلهي وأحكامه[1]، فإقامة هذا النظام إذن: إقامة لمنظومة الأوامر والنواهي الإلهية المنبثقة عن العقيدة الإسلامية، المنزلة بالوحي، التي أمرنا بالاستقامة عليها، واعتبر الخروج عنها طغيانا، وتحكيم غيرها كفرا وفسقا وظلما، واحتكاما للطاغوت أمرنا أن نكفر به، سواء الأحكام المتعلقة بالعبد فردا، مثل أحكام الصلاة والصيام، وتغيير المنكر، أو المتعلقة بالأمة جماعة، والتي تطبق من خلال الدولة مثل أنظمة العقوبات والمعاملات والقضاء والاقتصاد والاجتماع والتعليم والسياسة الداخلية والخارجية والمعاهدات والحروب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما إلى ذلك، وجماع هذا كله في نظام الدولة الإسلامية التي تسمى دولة الخلافة، لذلك كان بديهيا أن يقال بأن إقامة هذه الدولة إقامة لكل أحكام الإسلام في الأرض فهو من أوجب الواجبات وأولاها بالعناية وتشمير السواعد ليقوم الناس بالقسط!
وهل أنزل الله الشريعة إلا لتطبق والأحكام إلا لتكون الفرقان بين الحق والباطل والفيصل بين العدل والجور، وليقوم الناس بالقسط بإنزالهم أحكام الله على النوازل فيمتثلون أوامره وينتهون عن نواهيه، ويقيمون فيهم سلطانه ويجعلون السيادة لشريعته؟
كيف وجل أحكام الإسلام لا يتأتى وجودها ولا تطبيقها في الواقع إلا من خلال دولة إسلامية، يعود بها الإسلام حائطا منيعا، وبابا وثيقا، فحائط الإسلام العدل وبابه الحق، ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل[2]، كيف سيقضى بالحق وكيف سيأخذ العدل مأخذه إلا بدولة خلافة على منهاج النبوة؟
وذلك لأنه اعتبر الحكم بما أنزل وحده مقيما للقسط والعدل الذي به يتم أمر إقامة السموات والأرض على أساس العدل ومنع الظلم، وإنما نزل الكتاب وأرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط وفقا لشرع الله!، وقد بينا أن هذا من أعظم مقاصد الشرع! ﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [غافر: 20]، وفي هذه الآية الأخيرة يتبين أن إقامة العدل والحق لا تكون إلا بإقامة شريعة الله، فلا يمكن أن يقام العدل والقسط بأحكام وصفها القرآن بالجاهلية والطاغوت!
[1] قال تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ 112 هود، كما أمرت لا كما تهوى، ولا كما يشرع لك غير الله، وغير الاستقامة على أمر الله طغيان، أعلاه: الطاغوت، والذي أمرنا أن نكفر به وأن لا نحتكم إليه!
[2] عمير بن سعد، والي عمر بن الخطاب على حمص