سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الثالثة والستون: مفهوم الدولة القانونية
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الثالثة والستون: مفهوم الدولة القانونية
ثالثا: مفهوم الدولة القانونية:
الدولة القانونية مفهوم غربي نشأ ليعكس خضوع الدولة للقانون مما يؤدي لحماية حقوق الأفراد، بحيث تخضع فيها هيئاتها لقواعد القانون، أي لقواعد ملزمة لها كما هي ملزمة للمحكومين. مقابل مفهوم الدولة الاستبدادية التي يختلط فيها القانون بإرادة الحاكم ومشيئته دون خضوع هذه المشيئة لقيود محددة معلومة.[1]
وبالنظر في التشريع الإسلامي، نجد قواعد منضبطة مُحْكَمَة تحدد خضوع الدولة بكل فئاتها لقواعد التشريع الإسلامي، فالحاكم والقاضي والوالي مقيدون بأحكامهم كل التقيد بالحكم الشرعي، وقد أوجب الشرع طاعة الحاكم حين يحكم بالإسلام، ولكن الحاكم إن أظهر الكفر البواح، أي إذا خرج على منظومة الأفكار التي تعاقد المجتمع معه على تطبيقها، فإن على المجتمع أن يُغَيِّرَ الحاكمَ بالقُوَّةِ، والأفرادُ إذا خرجوا على هذه المنظومة، فأيضا يُقاتَلونَ قتال البغاة، ومن جملة الأدلة ما يلي:
﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ المائدة 49، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ النساء 59
وروى البخاري عن جنادة بن أبي أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به، سمعته من النبي ﷺ، قال: «دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا، أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»، وروى الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة عن ابن مسعود رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ «كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِذَا كَانَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُضَيِّعُونَ السُّنَّةَ وَيُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا قَالَ كَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ تَسْأَلُنِي ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ كَيْفَ تَفْعَلُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، وفي مسند أحمد باقي مسند المكثرين: قَالَ عَمْرُو بْنُ زُنَيْبٍ الْعَنْبَرِيُّ إِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ لَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِكَ وَلَا يَأْخُذُونَ بِأَمْرِكَ فَمَا تَأْمُرُ فِي أَمْرِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «لَا طَاعَةَ لِمَنْ لَمْ يُطِعْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ»، وفي حديث حديث أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيق -رضي الله عنه «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْهُ» رواه الترمذي، عن عدي بن عميرة أنّه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الخاصّة والعامّة» (أخرجه أحمد)، وعن النعمان بن بشير رضى الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مروا على من فوقهم، فقالوا: لو إنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» رواه البخاري والترمذي وأحمد والطبراني.
وأما قتال أهل البغي، فأهل البغي طائفة من الناس جمعت بين ثلاثة أمور هي: التمرد على سلطة الدولة بالامتناع عن أداء الحقوق وطاعة القوانين أو العمل على الإطاحة برئيس الدولة، ثانيا: وجود قوة يتمتع بها البغاة تمكنهم من السيطرة، وثالثا: خروجهم على الدولة.[2] مثل الثورة المسلحة أو الحرب الأهلية، أو القتال الداخلي، قال تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ 9 الحجرات.
من هذه الأدلة، وغيرها عشرات الأدلة، نجد أن الرعية والخليفة والخصومات والطاعة ومسئولية المحافظة على مجموعة القيم التي قامت عليها الدولة، كل ذلك محاط بسياج الأحكام الشرعية، وقامت عليه الأدلة، مما يعني أن دولة الخلافة دولة تسود فيها الشريعة، ويخضع الحاكمُ والمحكومُ لهذه الشريعة، فهي دولة قانونية بامتياز!
[1] النظام السياسي الإسلامي مقارنا بالدولة القانونية دراسة شرعية وقانونية مقارنة للأستاذ الدكتور منير حميد البياتي، ص 21 بتصرف، كذلك: ثروت بدوي: النظم السياسية ص 149، ود. طعيمة الجرف: نظرية الدولة ص 21.ِ
[2] الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل، الجزء الأول ص 63 عن التشريع الجنائي في المذاهب الخمسة 1ظ 148 – 150 والجريمة والعقاب في الفقه الإسلامي 160.