سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الثالثة والسبعون: نظرة الإسلام للفصل بين السلطات – ج2
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الثالثة والسبعون: نظرة الإسلام للفصل بين السلطات – ج2
وأما ما يتعلق بالفصل بين (السلطة التنفيذية) و (السلطة القضائية) فإن الإسلام لا يجعل السلطة القضائية منفصلةً عن السلطة التنفيذية، فكثيراً ما كان القاضي يجمع إلى سلطته في القضاء وظائف أخرى تنفيذية، كقيادة الجيش مثلاً.. وعلى كل حال فإنني أرى أن فصل السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية هو من الأمور التي ترك أمر البَتِّ فيها لصاحب السلطة، فإن رأى الفَصْل بينهما هو الطريق لضمان سلامة القضاء فَصَل.. وإن رأى أنَّ جَمْعَهُما في هيئة واحدة أسرع في تنفيذ الأحكام جَمَع..
وقد قَلَّد رسول الله ﷺ القُضاة، فقلَّد عليّاً قضاء اليمن، ووصاه تنبيهاً على وجه القضاء فقال له: «إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي» رواه الترمذي وأحمد. وفي رواية لأحمد بلفظ: «إذا جلس إليك الخصمان فلا تكلَّم حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول». وكذلك عيّن ﷺ معاذ بن جبل قاضياً على الجَنَد. وكلٌّ منهما دليل مشروعية القضاء[1].
ومن المعروف أن (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه فَصَلَ[2] مهمة القضاء عن غيرها من المهام والوظائف، فجعل أبا الدرداء قاضياً في المدينة، وشريحا لقضاء الكوفة، وأبا موسى لقضاء البصرة، وعثمان بن قيس لقضاء مصر، ولم يجمع لهم إلى القضاء مهمة أخرى وربطهم بنفسه مباشرة، ولم يجعل للولاة أي سلطة عليهم، فالسلطة القضائية قد تستقل عن الولاة ولكنها لا تستقل ولا تنفصل عن الخليفة الذي هو رأس السلطة التنفيذية.[3] وذلك لأن للقضاء صلاحيات لا بد من أن تعطى من قبل صاحب الصلاحية (أي الخليفة) لهم، كما أن لصاحب الصلاحية أي الخليفة صلاحيات أعطيت له من قبل صاحب الصلاحية الأصلي أي صاحب السلطان وهو الأمة، فالتصرف في مصالح الناس لا بد من صلاحيات تخول القيام به، وهذه الصلاحيات تعطى للقاضي من قبل صاحب الصلاحية، فالقاضي حين يحكم في قضية، فإن الحاكم هو الذي ينفذ أحكام قضائه، ويشمل كذلك النظر في قضايا المظالم؛ لأنها من القضاء، إذ هي شكوى على الحاكم، وهي أي المظالم: (الإخبار بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام فيما يقع بين الناس وبين الخليفة أو أحد معاونيه أو وُلاته أو موظفيه، وفيما يقع بين المسلمين من اختلاف في معنى نَصّ من نصوص الشرع الذي يُراد القضاء بحسبها والحكم بموجبها). والمظالم وردت في حديث الرسول في التسعير إذ قال: «… وإني لأرجو أن ألقى الله، ولا يطلبني أحد بمظْلِمة ظلمتها إياه في دم ولا مال» رواه أحمد من طريق أنس، ما يدل على أنه يُرفع أمْرُ الحاكم أو الوالي أو الموظف إلى قاضي المظالم فيما يدعيه أحد مَظْلِمَة، وقاضي المظالم يُخبر بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام[4]. فللقضاء إلزام على السلطة التنفيذية في أحكامه!
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (135) النساء.
على أن الإسلام يتضمن ضمانات لاستقلال[5] القضاء[6] منها: كفاءة القاضي، وكفاية القاضي المالية[7]، وحماية مكانة القضاء[8] (لتحقيق سيادة القضاء، وعدالته، وهيبته، وقوته، ونزاهته)، واجتهاد القاضي[9]، وتسبيب الأحكام، ومنع التدخل في القضاء[10]. وتفصيلات هذه الأحكام موجودة في كتب الحديث والفقه والسير.
[1] أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة، حزب التحرير.
[2] تولى عبادة بن الصامت القضاء على فلسطين، وكان معاوية واليها من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وخالف معاوية عبادة بن الصامت في شيء، فأنكر عليه عبادة ذلك، فأغلظ له معاوية في القول، فقال له: لا أساكنك بأرض واحدة وترك فلسطين وعاد إلى المدينة، فقال له عمر: ارجع إلى مكانك، فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية: (لا إمرة لك على عبادة) وبذلك منع عمر بن الخطاب الحاكم التنفيذي لفلسطين (معاوية بن أبي سفيان) من التدخل في القضاء وسلبه سلطته في مواجهة القاضي وجعل العلاقة بين القاضي والخليفة مباشرة. أنظر: د. حامد محمد أبو طالب: التنظيم القضائي الإسلامي، ص 47 وانظر: استقلال القضاء في التنظيم القضائي الإسلامي أ. مصطفى عبد الحميد دلاف، ص 6.
[3] أنظر: العددين 28 و 29 من مجلة الوعي
[4] أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة، حزب التحرير
[5] يتنوع الاستقلال إلى: استقلال ذاتي داخلي، يراد به: فصل القضاء عن نوازع القاضي الذاتية التي قد يختل بها مقصد العدل، (الغضب مثلا: قوله صلى الله عليه وسلم «لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان» البخاري، وإلى استقلال خارجي يتعلق بمنع تدخل غير القاضي وتأثيره على القاضي. والاستقلال الخارجي شامل للاستقلال الوظيفي الذي يراد به: قيام القاضي بواجبه القضائي دون تدخل من أي جهة أو تأثير، وكذلك يشمل الاستقلال العضوي الذي يعني: إفراد القضاء بسلطة منفصلة عن باقي السلطات.
[6] راجع: استقلال القضاء في الفقه الإسلامي رسالة دكتوراة، د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم.
[7] أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى واليه على مصر كتابا جاء فيه: وأفسح له (أي القاضي) في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس وأعطه من المنزلة ما لديك، ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، فيأمن بذلك في اغتيال الرجال له عندك) انظر: استقلال القضاء في التنظيم القضائي الإسلامي أ. مصطفى عبد الحميد دلاف، ص 8.
[8] حماية مكانة القضاء من ضمانات استقلاله. وتتجلى هذه الحماية في إضفاء الحصانة على القاضي المتضمنة حصرَ توليته من قبل الإمام أو من ينيبه، وعدمَ نقل قضية دخلت في ولايته بلا سبب مشروع، وبقاءَ ولايته دون نقل أو عزل إلا بطلب منه أو مصلحة شرعية مقتضية لذلك حتى وإن زالت صفة الإمامة عن الإمام بأي سبب، وعدمَ مخاصمة القاضي في دعوى جوره في الأحكام إلا بعد إحضار البينة، ووجوبَ التحقق من الشكوى ضد القاضي وإن تعددت، وأن يكون ذلك التحقق بأحسن طريق مؤدٍ للمصلحة ومانع للمفسدة. ومما تتجلى فيه حماية مكانة القضاء – أيضاً – قصر المرافعة على مجلس القضاء الذي حصرت الولاية فيه؛ اتباعاً لهذه الولاية، وصيانةً للقضاء من الابتذال، وحفظاً للأحكام من التدخل بالنقض والإيقاف. وكذلك، فإن أقوى حماية لمكانة القضاء تنفيذ الأحكام؛ إذ ذاك الأصل فيها، والذي ينفرد بإقامتها الإمام أو من ينيبه نصاً أو عرفاً، وأنه لا يملك أحد إيقافها إلا المحكوم له في حقوق الآدميين حال عفوه المعتبر شرعاً، أو الإمام في الأحكام التعزيرية المتمحض حق الله – سبحانه – فيها إن كان في ذلك مصلحة مرعية شرعاً.
[9] اجتهاد القاضي من ضمانات استقلاله، وذلك الاجتهاد مطرد في جميع العملية القضائية: فهماً للواقعة، وتقديراً للبينات، ووصفاً للواقعة، وتحديداً للدليل الشرعي الملائم، و إصداراً للأحكام.
[10] راجع بعض التفصيلات المهمة في ملخص لرسالة دكتوراة: استقلال القضاء في الفقه الإسلامي على موقع الألوكة.