سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة السادسة والسبعون: خلو العلمانية من أفكار تفصيلية عن الحكم والإدارة!
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة السادسة والسبعون: خلو العلمانية من أفكار تفصيلية عن الحكم والإدارة!
تنشأ الدولة بنشوء أفكار جديدة تقوم عليها، ويتحول السلطان فيها بتحول هذه الأفكار، لأن الأفكار إذا أصبحت مفاهيم –أي إذا أُدرِك مدلولها وجرى التصديق بها- أثّرت على سلوك الإنسان، وجعلت سلوكه يسير بحسب هذه المفاهيم، فتتغير نظرته إلى الحياة، وتبعاً لتغيرها تتغير نظرته إلى المصالح. والسلطة إنّما هي رعاية هذه المصالح والإشراف على تسييرها[1]. ولذلك كانت النظرة إلى الحياة هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة وهي الأساس الذي يوجد عليه السلطان. إلاّ أن النظرة إلى الحياة إنّما توجِدها فكرة معينة عن الحياة، فتكون هذه الفكرة المعيّنة عن الحياة هي أساس الدولة وهي أساس السلطان. ولمّا كانت الفكرة المعيّنة عن الحياة تتمثل في مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات كانت هذه المجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات هي التي تعتبر أساساً والسلطة إنّما تَرعي شؤون الناس وتشرف على تسيير مصالحهم بحسب هذه المجموعة، ولذلك كان الأساس مجموعة من الأفكار وليس فكرة واحدة، وهذه المجموعة من الأفكار قد أوجَدت بمجموعها النظرة إلى الحياة وتبعاً لها وُجدت النظرة إلى المصالح وقام السلطان بتسييرها حسب هذه النظرة. ومن هنا عُرفت الدولة بأنها كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقبّلتها مجموعة من الناس.
هذا بالنسبة للدولة من حيث هي دولة، أي من حيث هي سلطان يتولى رعاية المصالح ويشرف على تسييرها. إلاّ أن هذه المجموعة من الأفكار التي تقوم عليه الدولة، أي مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات، إما أن تكون مبنية على فكر أساسي أو ليست مبنية على فكر أساسي، فإن كانت مبنية على فكر أساسي فإنها تكون متينة البنيان وطيدة الأركان ثابتة الكيان، لأنها تستند إلى أساسٍ ما بعده أساس، لأن الفكر الأساسي هو الفكر الذي لا يوجد وراءه فكر ألا وهو العقيدة العقلية، فتكون الدولة حينئذ مبنية على عقيدة عقلية. وأمّا إن كانت الدولة غير مبنية على فكر أساسي فإن ذلك يسهّل أمر القضاء عليها، ويكون ليس من الصعب تحطيم كيانها وانتزاع سلطانها، لأنها لم تُبنَ على عقيدة واحدة ينبثق عنها وجودها، فيكون من غير الصعب إزالتها. ولهذا كان لا بد للدولة حتى تكون ثابتة الكيان من أن تكون مبنية على عقيدة عقلية تنبثق عنها الأفكار التي وُجدت الدولة على أساسها، أي عقيدة عقلية تنبثق عنها المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تمثل فكرة الدولة عن الحياة، وبالتالي نظرة هذه الدولة إلى الحياة، تلك النظرة التي ينتج عنها نظرتها إلى المصالح.
والدولة الإسلامية إنّما تقوم على العقيدة الإسلامية، لأن مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقبّلتها الأمّة إنّما تنبثق عن عقيدة عقلية، وقد تقبّلت الأمّة أولاً هذه العقيدة واعتنقتها عقيدة يقينية عن دليل قطعي، فكانت هذه العقيدة هي فكرتها الكلية عن الحياة، وبحسبها كانت نظرتها إلى الحياة ونتجت عنها نظرتها إلى المصالح، وعنها أخذت الأمّة مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات. ولذلك كانت العقيدة الإسلامية هي أساس الدولة الإسلامية[2]، ومن ثم فقد حوت مصادر الفقه الإسلامي الأسس التي تقوم عليها الدولة بالتفصيل، وأما الأنظمة الوضعية فستفاجؤنا بأن فقهها الدستوري لا يحقق الارتباط المتين ولا الانبثاق القويم بين الفكرة الأساسية التي قامت عليها الدولة، وبين تفصيلات الفقه الدستوري، أي أن العلاقة بين العلمانية كفكرة أساسية قامت عليها تلك الدول، وبين فقهها الدستوري علاقة غامضة، مرنة غير منضبطة، وذلك يعود إلى فساد في العقيدة العلمانية نفسها، إذ أنها وبعد أن نتجت عن الصراع المرير بين الكنيسة وبين العلم، وبين الكنيسة وبين المجتمع، نشأت أفكار العقيدة العلمانية مركزة على منع تدخل الدين في السياسة، ومن ثم توسعت فمنعت تدخل القيم الناشئة عن أي مصدر سواء الدين أو الأخلاق أو العادات في القوانين، ووقفت عند هذا الحد، ولم تعط تفصيلات تشريعية تبين شكل الدولة، وطريقة اختيار الحاكم، وطريقة عزله، وعلاقة الدولة بالرعية، وما شابه من قضايا فصلنا فيها في بداية هذا الباب، بل تركت هذا كله للدول نفسها تصوغها وفقا لما يراه فقهاء تلك الدولة الدستوريين، لذلك تجد فروقا كبيرة بين أمريكا وكندا، وبريطانيا وفرنسا، وهكذا في الأحكام الدستورية وعلاقتها بالعلمانية، فهي تتوافق على أطر عامة، وتختلف في التفاصيل، وكذلك لا تجد طريقة انبثاق تلك الأحكام عن العلمانية، لأن العلمانية بكل بساطة لم تفصل في تلك الأحكام! أي أن منظري الفكر العلماني لم ينظروا للقضايا التفصيلية المتعلقة بالأسس التي تقوم عليها الدولة، لذلك يمكننا القول بأن العلمانية مرنة في معتقداتها، إذ ليس لها شروط أو أسس تلتزم بها إنما هي قابلة للتعديل والتطوير والزيادة والتكييف في أي بيئة توجد فيها وفي أي مجتمع تظهر به وبين أي من الأفراد كانوا طالما أنهم يلتزمون الإطار العام الناظم لفلسفتها وعقيدتها وهو فصل القيم الناتجة عن الدين والأخلاق والعادات عن الحياة والسلطة.
[1] راجع بالتفصيل كتابنا: هل حدد الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة لإقامة الدولة الإسلامية، فصل: طريقة إقامة الدولة. فقد أسهبنا في نقاش هذه الفكرة وأقمنا عليها الأدلة الكافية.
[2] مقدمة الدستور أو الأسباب الموجبة له، حزب التحرير، أحكام عامة.