كلمة العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة أمير حزب التحرير بمناسبة افتتاح مؤتمر “طوق النجاة: رؤية إسلامية صادقة حول المعالجات الصحيحة لمشاكل السودان دون انتكاسات الربيع العربي” الذي عقد في السودان بمناسبة ذكرى هدم الخلافة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،
إلى سودان الإسلام العظيم… إلى سودان مسجد دُنْقُلا أول مسجد خطه المسلمون الأوائل في السودان… إلى سودان الفتح الإسلامي الكبير في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه حيث أمر والي مصر أن يُدخل نور الإسلام إلى السودان، فأرسل جند الإسلام بقيادة عبد الله بن أبي السرح، وبعد مواجهات حول دُنْقُلا، دخل السودان من جهة النوبة شمالاً صلحاً باتفاقية البقط مع صاحب “المَقَرَّة” في النوبة سنة 31هـ، وكان من بنودها الاعتناء بمسجد دنقلا… إلى سودان المأمون الخليفة العباسي حيث اشترى بعض المسلمين أرضاً في النوبة، فاعترض كبير النصارى على صحة البيع قائلا إن البائع النصراني هو من رعيته، فلا يجوز له بيع أرضه إلا بإذنه وهو لم يأذن… فرفعت القضية إلى الخليفة المأمون، فأحالها للقضاء، فحكم بأن مالك الأرض يملك التصرف في أرضه دون إذن كبير النصارى لأنه ليس عبداً عنده يُمنع من التصرف فيما يملك، وصدق عمر رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا…”، وقد كان ذلك الحكم العادل سبباً في دخول عدد كبير من النصارى في الإسلام، لأنهم رأوا أن الإسلام لا يميز في الحق بين كبير وصغير، فلا يُظلم عنده أحد، وهكذا انتشر الإسلام بتسارع بفضل الله سبحانه حتى ملأ كل السودان: من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه… إلى سودان العثمانيين حيث أصبحت السودان ولاية واحدة هي ومصر سنة 1821… ثم إلى السودان المجاهد ضد الإنجليز في عدوانهم على السودان بقيادة كتشنر حيث استمر ذلك العدوان نحو عشرين سنة منذ 1896 فاحتل الإنجليز أم درمان والخرطوم 1898 ثم كردفان 1900، واستمرت دارفور في المقاومة حتى سنة 1916 عندما استشهد البطل التقي القوي “علي بن دينار” والي دارفور ذلك العالم المجاهد الذي كان له الفضل في إصلاح ميقات المدينة وأهل الشام “ذي الحليفة” وإنشاء الآبار لسقاية الحجيج التي لا زالت تسمى باسمه حتى اليوم “ابيار علي”…
إلى كل هؤلاء الذين أضاؤوا السودان بإيمانهم وعلمهم وجهادهم… وإلى هذا الجمع الكريم في مؤتمركم المبارك… أحيي بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الأخوة الكرام: بعد ذلك التاريخ الزاهر المضيء استمر الاستعمار المباشر من إنجلترا عدوة الإسلام والمسلمين أربعين سنة أخرى، وهكذا مكثت الاستعمار الإنجليزي المباشر في السودان ستين سنة منذ العدوان الإنجليزي سنة 1896م حتى سنة 1956م… ومن بعدُ كان الاستعمار غير المباشر السياسي والثقافي وانتشار القيم الرأسمالية العفنة، وصراع الاستعمار القديم والجديد، إنجلترا وأمريكا، على السودان، حتى انتهى المطاف بالسودان البلد الطيب الطاهر إلى أن يُمزَّق جسمه، فيفصل جنوبه عن شماله باتفاقية نيفاشا الباطلة القاتلة، وبرعاية أمريكا الاستعمارية… ولو وقف الأمر عند هذا الحد، لقلنا كفارٌ مستعمرون يُهمهم تمزيق بلاد المسلمين… لكن الأدهى والأمر أن نظام الحكم في السودان بدافع من أمريكا قد بذل الوسع في إجراء المفاوضات واتفاقية نيفاشا، ويا ليته أقرّ بأن تلك الاتفاقية باطلة قام بها والغشاوة على بصره… لكنه عدّ تمزيق البلاد نصراً، وعدّ اتفاقية نيفاشا عنوان هذا التمزيق، عدّها عملاً عظيما! وهكذا تغيرت القيم، وانقلبت المفاهيم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ»، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ».
أيها المسلمون: إن الحكام اليوم وقد رأوا صحوة الأمة، وأنها تريد مبعث عزها، الخلافة الراشدة، في هذه الفترة يدعو الحكم في السودان إلى حوار للبحث عن الحلول الوسط على الطريقة الرأسمالية بحجة إنقاذ السودان، وهي في الحقيقة لإنقاذ الطبقة الحاكمة من سوء ما صنعت، وطوي جرائمها كأن لم تكن… يدعون إلى حوار مع النظام نفسه الذي مزَّق البلاد وألقى بذرة الانفصال في أرض السودان، وما بين سطور اتفاقية الدوحة بشأن دارفور ينطق بذلك. إن دواءنا أيها الأخوة من الداء الذي نعانيه هو في شرع الله، في نظام الخلافة، وليس في حوار تدفع إليه أمريكا وأعوانها لحل وسط يفضي إلى غير دين الله، بل إلى سوء من الشرق وسوء من الغرب، فيُخلطان معاً لينتجا نظاماً شاذاً مشوهاً، يمقته الله ورسوله والمؤمنون… وما هو جارٍ في بلاد المسلمين اليوم من أحكام ينطق بذلك.
إن الحل لمشاكلنا ليس مجهولاً، ولا هو نظريات بعيدة عن التطبيق، بل هو مسطور في كتاب الله سبحانه وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإجماع صحابته رضوان الله عليهم… إنها أحكام شرعية تنير الظلام، سار عليها المسلمون قروناً فكانوا الدولة الأولى في العالم، تنشر الخير ليس في ربوعها فحسب، بل في ربوع العالم… أفلا يتساءل أحدكم بعد ذلك: لماذا تستغيث بضع نسوة يأسرهن ملك السند فيجيب محمد بن القاسم استغاثتهن، وينطلق بجيش المسلمين بأمر الخليفة، فيؤزّ عرش ملك السند ويفك أسرهن ويفتح السند والهند ويضيء بالإسلام تلك البلاد، لماذا تلك الاستغاثة يُستجاب لها بجيش يفك أسرهن ويفتح تلك البلاد بنور الإسلام، واليوم تستغيث النساء والأطفال والشيوخ في ميانمار بورما وهي على مرمى حجر من بنغلادش فلا يستجيب لتلك الاستغاثات أحد؟! ثم ألا يتساءل أحدكم لماذا كانت صيحة امرأة ظلمها رومي فتنادي وامعتصماه، فتصل مسامع الخليفة، فيقود جيشاً ينتقم لها ممن ظلمها، ويفتح عمورية قرب أنقرة اليوم، وكانت من أمنع وأحصن مدن الروم… لماذا هذه الصيحة تحرك جيشاً، واليوم صيحات وصيحات من شيوخ ونساء وأطفال في أفريقيا الوسطى وهي على مرمى حجر من السودان، ولكن دون استجابة للصيحات ودون جيش يتحرك لإنقاذهم؟! لماذا أيها المسلمون؟ أليس ذلك لأن الخليفة الذي يُقاتل من ورائه ويُتقى به ويرعى شئون الأمة، هذا الخليفة غير موجود؟ أليس الأمر هكذا؟ ألا يدرك ذلك كل صاحب بصر وبصيرة؟ أليس مبعث عز المسلمين هو إقامة الخلافة؟ أليست قضية المسلمين المصيرية هي الخلافة؟ أليس من مات وليس في عنقه بيعة لخليفة يحكم بشرع الله، فإنه يموت ميتة جاهلية؟ أليس هذا فرضاً وأي فرض؟ هكذا أيها المسلمون، فإن أمرنا لا يصلح إلا بما صلح به أوله… دولة تحكم بالحق وتطبق الإسلام بالعدل، خلافة على منهاج النبوة تسير مسيرة الخلافة الأولى، تطبق الإسلام في الداخل، وتنطلق جيوشها لنشر الإسلام في الخارج…
أيها المسلمون: إننا ندرك أن هناك من يقول: حزب التحرير يحلم بإقامة الخلافة، وهي هذه الأيام مستحيلة! ونُجيب: هل حزب التحرير يحلم وهو يتلو وعد الله بالاستخلاف لمن آمن وعمل صالحاً ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؟ وهل حزب التحرير يحلم وهو يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة من جديد بعد هذا الحكم الجبري «…ثُمَّ تَكُونُ جَبْرِيَّةً… ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»؟… ونحن ندرك أيضا أن هناك من يقول: إن حزب التحرير لا بضاعةَ له إلا الخلافة، حيث حلَّ أو ارتحل لا ينطق إلا بالخلافة، لا يعرف غيرها، ولا إلْفَ له غيرُها … هكذا! نعم أيها المسلمون إن الخلافة هي البضاعةُ والصناعة، هي حافظةُ الدين والدنيا، بها تقام الأحكام، وتُحدُّ الحدود، وتفتح الفتوح بالحق. هي التي شَرَع المسلمون بها قبل أن يشرعوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه صلوات الله وسلامه عليه، على أهمية ذلك وعظمته، وكل ذلك لعظم الخلافة وأهميتِها حيث رأى كبارُ الصحابة أن الاشتغال بها أولى من ذلك الفرض الكبير: تجهيز الرسول صلى الله عليه وسلم… نعم إن الخلافة هي العزُّ والمنعة، هي التي تقضي على دولة يهود وتعيد فلسطين كاملة إلى ديار الإسلام، هي التي تقضي على سلطان الهندوس في كشمير، وتنهي حكم الروس في الشيشان والقفقاس وتتارستان، هي التي تقضي على احتلال الصين لتركستان الشرقية، هي التي تعيد القرم إلى أصلها، جزءًا من دولة الخلافة، هي التي تعيد كلَّ بلاد الإسلام إلى أصلها وفصلها… وهي التي تقطع يد أمريكا وبريطانيا وفرنسا من العبث في بلاد المسلمين، وتردها إلى عقر دارها إن بقي لها عقر دار… الخلافة هي التي تنشر الأمن والأمان في الشام وهي التي تمنع تمزُّق العراق، وتعيد ما فُصل من السودان، وتعيد اللحمة إلى الصومال، وتزيل الحدود والسدود التي رسمها الكفار المستعمرون من أطراف المحيط الهادي حيث إندونيسيا وماليزيا إلى شواطئ الأطلسي حيث المغرب والأندلس. إنها التي تنشر العدل والخير، وتُعز الإسلام والمسلمين، وتقطع دابر الظلم والشر، وتُذل الكفار المستعمرين…
وقد يقول قائل: أوَ تفعلُ الخلافة كلَّ هذا؟ أتصنع النصر وتدفع الهزيمة؟ ونقول نعم، يقول بهذا ربنا سبحانه وتعالى ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، ونصرُ اللهِ الحق لا يكون إلا بإقامة دولة الإسلام التي تقيم أحكامَه، فإذا أقيمت نصرها الله سبحانه، ورسختْ وعزّتْ، فاحترمها أصدقاؤها وهابها أعداؤها. ويقول بهذا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه ويُتقى به» فالخليفةُ والخلافة جُنة، أي وقاية، ومن كانت له وقاية، فهو بإذن الله منصور في النهاية، لا تضيع حقوقه، ولا بلاده، ولا يجرؤ أن يقتربَ منه أعداؤه. وينطق بهذا تاريخ الخـلافة، فأين بيزنطة وصولجانها؟ وأين المدائن والأكاسرة؟ ثم من مدَّ الصوت بالتكبير في تلك البقاع الممتدة على طول الأرض وعرضها من المحيط إلى المحيط لولا دولة الإسلام وجند الإسلام وعدل الإسلام؟… فالخلافة هي مبعث عز المسلمين، وسبيل نهضتهم، وعنوان وحدتهم… فيها فوزهم في الدنيا وفوزهم في الآخرة، وذلك هو الفوز العظيم… هذا هو الحق أيها المسلمون، ولمثل هذا فليعمل العاملون ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
وفي الختام، فإني أذكركم بثلاثة أحداث في هذا الشهر الحرام شهر رجب الذي ينعقد مؤتمركم فيه، فيها عظة وعبرة لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. الحدثان الأولان أضاءا الدنيا بفضل من الله ونعمة، أما الأول فهو: حادث الإسراء والمعراج الذي أكرم الله به رسوله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ثم وفاة عمه أبي طالب الذي كان يعينه أمام قريش.. والحادث الثاني هو الإذن من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم بطلب النصرة لإقامة دولة الإسلام، وتطبيق حكم الله في الأرض، فاستجاب الأنصار، وأقيمت دولة الإسلام، وأشرقت الأرض بالخير والعدل.
وأما الحدث الثالث فقد جاء بالظلام بعد النور، حيث تآمر الإنجليز مع عملائهم خونة العرب والترك، تآمروا على الخلافة في اسطنبول فقضوا عليها، ومن ثم مُزِّقت بلادنا شر ممزق، وأصابنا من جراء ذلك ما هو شاهد على مآسينا المتتالية… فهلم أيها المسلمون لإزالة هذا الظلام الطارئ، وإعادة نور الخلافة من جديد، فنستظل في الدنيا براية العُقاب، راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونستظل في الآخرة بظله سبحانه يوم لا ظل إلا ظله، ونكون إن شاء الله مع الذين قال الله فيهم ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.