المسألة الغربية والكارثة الإنسانية؛ البذور والجذور
تسير المنظومة الرأسمالية الغربية وحضارتها البائسة بخطا حثيثة نحو حتفها وفنائها، فهذه الحضارة أرهقتها أحمالها المثقلة بصخور ماديتها الجافة اليابسة، وأعيتها مسيرة قرنين خلت من حياتها البائسة بلا معنى ولا هدف حتى أضحى السير من أجل السير تيهاً محضا؛ تيهاً عن الوجود وسببه ومسببه، عن خالقه وبارئه، تيهاً عن معنى الوجود وغايته ومصيره، تيهاً عن حقيقة الإنسان ذاته والغاية من خلقه ومصيره. وفي هذا التيه ومن ورائه ذلك الركام والضلال الفكري انبعث الشر كله، وتحولت الحياة البشرية إلى جحيم وباتت أنظمتها أنظمة عذاب لا أنظمة حياة.
فهذه المنظومة المشؤومة سلخت البشرية من حق ربها وحقيق عدله، وألبستها باطلها وحقيق ظلمها، فنقضت أمرها وعددت لها شرائعها بعدد هوى مشرعيها، حتى بات وجه الأرض فوضى إنسانية وظهرها حطاما بشريا، وأضحت شرائعها الوضعية الوضيعة أشد في إفسادها من الفساد كله، حتى صرنا نرى حياة الوحش أرحم من حياة البشر.
لقد عرت هذه المنظومة المشؤومة البشرية من شرع ربها، وحادت بها عن نظامه ومن ثم عن نظام الكون، فكان أن شرعت لها ما لا يصنع الشيطان الرجيم أخبث منه، بل على حبال تشريعاته يتراقص. فما كانت تشريعاتها وأنظمتها إلا عنتا وإرهاقا، لا يتهيا معها صرف ولا عدل، فلا يستقيم لها وبها شيء، ولا تستقيم هي لشيء، ما كانت في الناس إلا نقيض ادعاءاتها وشعاراتها.
فالغرب في زعم وتهافت فلسفته، بعد أن كفر بإله كنيسته اتخذ له من هوى وزيغ عقله إلهاً، وما تلبث إلا يسيرا حتى كفر به، ولم يذهب إلى ما هو أهدى وأرشد بل انتكس وارتكس، ثم نكس على رأسه وأقام له من المادة الصماء (الطبيعة) وثنا معبودا، ثم ما كاد ينتهي من نحته حتى عمي وصم وهوى القهقرى، فهشم وفكك وثنه المادي وانتهى إلى العدمية والعبث، وتعنت في اللامعنى فلسفة وتفسيرا للحياة.
فمن زعم العقلانية الإنسانية (الهيومانية) انتكس إلى مادية الحداثة، وأخيرا ارتكس إلى عدمية وتفكيك ما بعد الحداثة، وفي تفكيكه فكك الإنسان وقوضه ونفى عنه أية خصوصية أو تكريم، في إبعاد تام وعدمية خالصة لأي إيمان بأية قيمة أخلاقية أو مثالية أو حتى حلم طوباوي، وهو ما أطلق عليه فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسي ليوتار “غياب الأيديولوجيات الكبرى”. وهذه الإباحية الفكرية لا تعرف مقدسات ولا يقينيات ولا مطلقات ولا حقائق ولا محرمات، بل سيولة جارفة وميوعة تامة، لا معنى فيها ولا غاية، بل مرجعيتها الأساسية هي التفكيك والهدم وما في حكمهما.
وهنا انتهت المنظومة الفلسفية العلمانية المادية الغربية المشؤومة إلى الجنون المادي، عبر عنه أحد أقطاب فلسفة ما بعد الحداثة الفيلسوف الفرنسي فوكو صاحب “تاريخ الجنون” بقوله: “إن الجنون يغري، إنه معرفة”، وأضحت اللاعقلانية واللامعنى فلسفة حياة. ترجمتها مأساة حياة أصحابها بأمانة خالصة، فأبو فلسفة ما بعد الحداثة الفيلسوف الألماني نيتشه انتهى مكتئبا ثم مجنونا، بعد أن كان مصابا بالسفلس والزهري بعد أن عاش وحدة مقفرة يتقلب بين البغايا لا زوجة ولا ولد، عبر عن حاله في لحظة صدق حقيقية بقوله: “إن وجودي عبء ساحق لا يحتمل”. وهذا فيلسوف ما بعد الحداثة الفرنسي فوكو كان شاذا وساديا ومازوكيا مرتكس الفطرة، حاول الانتحار مرات عدة، فعاجله الإيدز بسبب حياته المتفحشة. وهذا الفيلسوف الفرنسي دولوز يلقي بنفسه من نافذة شقته منتحرا. وهذا ألتوسير فيلسوف الماركسية يقتل زوجته خنقا، وينتهي به الأمر في مستشفى الأمراض العقلية للمجانين الخطرين.
هؤلاء هم الذين تقدم لهم الموسوعات الفلسفية الغربية أعمالهم وتعرض أمشاج فلسفاتهم، وتضرب صفحا عن أشخاصهم وفعل فلسفاتهم في ذواتهم، فالغرب دَوِيٌّ مِنْطِيق في إعلانه وإعلامه وإشاعته لأوهام فلسفاته، بينما لا تسمع له في المقابل إلا همهمة وغمغمة متى تعلق الأمر بالثمن المدفوع ووخيم العاقبة لهكذا فلسفات.
هي المنظومة المشؤومة زعمت تحرير الإنسان وانتهت بتفكيكه وتقويضه وتدميره، أوعدته الحياة ثم أوفته الانتحار. كم كان شقاء الإنسان وحيرته وضلاله وارتكاس فطرته حين حاد عن خالقه، عن حقيقة وجوده سببا وغاية ومصيرا، وتاه في بيداء الغرب تتقاذفه أهواء وتخرصات فلاسفته، فطمروا عقله تحت هذا الركام من الرجس الفكري يتخبط في ظلماته وظنونه وشكوكه، لا يستقر فيه على يقين، ولا يطمع فيه بإيمان، وأضحت حياته من ثقل هذا الركام قلقاً وحيرة وشروداً، وغرق في فساده وانحلاله وظلمه وذله وفحشه وبؤسه وتعاسته حتى وحوش الغاب تأبى حياته، حتى صار الانتحار في حضارة التيه ومنظومة الشؤم خيارا وخلاصا.
وها هي الحقيقة العارية، فقد أكد تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية بشأن معدلات الانتحار، من أنها زادت خلال السنوات الخمس والأربعين الماضية بمعدل 60%، وأن ظاهرة الانتحار تودي بحياة مليون منتحر سنويا، والمتوقع أن يرتفع العدد بنسبة 50% ليصل إلى مليون ونصف المليون منتحر سنة 2020، وأظهر التقرير أن أكثر من نصف المنتحرين دون سن 45 عاما، وفي فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاما يأتي الانتحار في المرتبة الثانية بعد حوادث السير كعامل للوفاة.
ومن أرقام هذا السحق الحضاري، معدل محاولات الانتحار الذي يصل إلى 20 ضعفا من حالات الانتحار المفضية إلى الموت، أي أن عدد من يحاولون الانتحار يناهز 20 مليون إنسان!
هذه هي الحقيقة الفاضحة لمأساة هذه البشرية المنكوبة بحضارة الغرب الملعونة، في حيرتها وضلال تصوراتها، وباطل أنظمتها وأوضاعها، وجاهلية تقاليدها وعاداتها.
هما حالتان اثنتان لا ثالث لهما تَتَعاوَرَانِ حياة البشرية ما تعاقب الليل والنهار واختفت أمصار وظهرت أخرى، حالة الهدى وحالة الضلال، حالة الحق وحالة الباطل، حالة الإيمان وحالة الكفر، وما كانت حضارة الغرب ومنظومتها المشؤومة إلا حالة ضلال وباطل وكفر محض.
آن وحان لكم معشر المسلمين أن تقدروا حقيقة التبعات الخطيرة والمدمرة لمائة سنة خلت من ضياع خلافتكم وغياب إسلامكم عن دفة قيادة هذا العالم، تجاه أنفسكم وتجاه البشرية جمعاء.
آن وحان لكم معشر المسلمين تحمّل مسؤوليتكم، فوالذي فلق الحب والنوى وأخرج الحي من الميت والميت من الحي، ما لهذا العالم البائس المنكوب بحضارة الغرب المشؤومة إلا أنتم لإخراجه من حيرته وضلاله وإرجاعه إلى ربه، فما كنتم في البشرية إلا حالة رشاد وهدى وحق وإيمان وصلاح وفلاح، فاعلموا يرحمكم الله أن لا خلاص ولا نجاة من هذا الجحيم الأرضي الذي صنعته حضارة الغرب الكافرة إلا بالتخلص منها، بقذف حق الإسلام العظيم وخلافة نبوته على باطل مادية وعدمية علمانيتها وضرار دويلاتها، فيدمغه فإذا هو زاهق، وأنتم والله المسؤولون والقمين بكم ذلك، والله ولي التوفيق.
﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾