حاجة البشرية إلى قيادة فكرية وسياسية تخلصها من الضنك والشقاء وتحقق لها السعادة والهناء
يعيش العالم اليوم حالة من التيه والاضطراب، وتحيا البشرية في شقاء وضنك، وتتوالى عليها الأزمات في جميع جوانب الحياة، حروب وصراعات سياسية وعسكرية بين الدول الكبرى على المنافع وتحقيق المصالح راح ضحيتها ملايين الأبرياء بين قتلى وجرحى ولاجئين ومعتقلين، تدهور في اقتصادات الدول في ظلِّ جائحة كورونا وتفاقم للمشاكل والأزمات الإنسانية كارتفاع معدلات الفقر والجوع في العالم؛ فقد أظهرت دراسة صادرة عن الأمم المتحدة أنّ جائحة كورونا قد تدفع ما يصل إلى 130 مليون شخص إضافي إلى الجوع المزمن بنهاية عام 2020، مشيرة إلى أن عدد من يعانون من الجوع حول العالم قد بلغ في عام 2019 ما يقرب من 690 مليون شخص بزيادة 10 ملايين شخص عن 2018. أزمات ومشاكل مجتمعية على رأسها العنصرية والتمييز خاصة في المجتمعات الغربية التي تشهد ارتفاعا في مستويات التمييز والعنصرية بحق المهاجرين وبحق المسلمين وبحق السود، ولعل حادثة مقتل جورج فلويد وما تبعها من ضجة في أمريكا بل في العالم، تظهر استشراء هذه الآفة في تلك المجتمعات، لقد فقدت الشعوب الثقة في قيادتها في ظلّ عجزها وتقاعسها عن توفير الحياة الكريمة والعدل والأمن لها، والمظاهرات التي شهدتها دول عدة في العالم مطالبة بتوفير الحقوق والحياة الكريمة كمظاهرات لبنان ومصر وأصحاب السترات الصفراء في فرنسا شاهدة على ذلك.
لقد بات العالم بحاجة ماسة إلى مَن يقوده إلى برِّ الأمان بعدما أخذته الرأسمالية إلى حافة الهاوية، فهي بعقيدتها العلمانية، المبنية على فصل الدين عن الحياة وبما انبثق عنها من أفكار ومفاهيم وأنظمة، قد أحدثت خللاً في كلّ العلاقات: علاقة الإنسان بربه؛ فوجد الخواء الروحي لأنها لم تقنع العقل ولم توافق الفطرة، وبنفسه؛ فأطلقت العنان للحرية الفردية وجعلت كلّ شيء مباحاً في سبيل تحقيق الرغبات وإشباع الحاجات والغرائر فأفسدت الفطرة ونشرت الفساد في المجتمعات، وبغيره من النّاس؛ فجعلت القيمة المادية هي العليا، وجعلت علاقات الأفراد والدول قائمة على المصالح والمنافع، حتى إنّها جعلتها أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم فغاب عن الدول مفهوم الرعاية وحلّ محله مفهوم الجباية حتى في أحلك الظروف والحالات الإنسانية كما هو حاصل هذه الأيام في جائحة كورونا. فعلى سبيل المثال قامت بعض الدول بعمليات قرصنة وسطو على معدات ومواد طبية كالتشيك التي قامت بمصادرة الآلاف من الأقنعة الطبية الموجهة من الصين نحو إيطاليا، كما تخلّت العديد من الدول الغربية عن واجبها في رعاية كبار السنّ الذين هم أكثر عرضة للإصابة والتأثر بفيروس كورونا وتركتهم يموتون في دور العجزة دون تقديم العلاج لهم لأنّهم يشكلون عبئاً اقتصادياً على الدولة وآثرت تقديم العلاج لفئة الشباب!
إنّ البشرية بحاجة إلى مبدأ يُقدّم لها معالجات ناجعة للمشاكل والأزمات التي تواجهها، بدل الترقيع والتسكين المؤقت في انتظار موجة جديدة من الأزمات، فالدول الرأسمالية الكبرى ومؤسساتها لم تُقدِّم أي حلّ جذري لأي قضية بل إنّ تدخلها فاقم من المشاكل وكان لصالح الظالم ضد المظلوم كما في سوريا واليمن وغيرهما، إنهاّ بحاجة إلى نظام دولي جديد تقوده دولة تسوس الناس بالعدل والرحمة وتحقق لهم الأمن وترعى شؤونهم بدل النظام الدولي الذي تتفرد فيه أمريكا اليوم وتحكمه بالتخويف والبلطجة والاستعمار.
إنّ الإسلام وحده هو القادر على أنّ يقود البشرية قيادة فكرية تحقق لها السعادة والطمأنينة والعدل والنهضة الصحيحة؛ لأنّه مبني على عقيدة عقلية تقنع العقل وتوافق الفطرة، وتنظم علاقَة الإِنسان بخَالِقِهِ من خلال العَقَائد والعِبَادَات، وبِنَفْسِهِ من خلال الأَخْلاقَ والمَطْعُومَاتِ والمَلْبُوسَاتِ، وبغَيْرِهِ مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ من خلال المُعَامَلاتِ والعُقُوبَاتِ، ولأنّه لم يترك التشريع للعقل البشري الذي هو عرضة للنقص والاحتياج والتفاوت باختلاف الزمان والمكان والأشخاص كما هو حاصل في التشريع في النظام الوضعي، فليس البشر هم الذين يقررون ما هو الصواب وما هو الخطأ، وما هو أخلاقيّ أو غير أخلاقيّ، اعتماداً على المزاج داخل المجتمع في أي وقت معين، وعلى مصالح المشرعين، بل جميع الأحكام والتشريعات نزلت من لدن حكيم خبير ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، فالإسلام عقيدة تُعيّن وجهة نظر الإنسان في الحياة، وله طراز عيش خاص به، وعقيدته تشكل قاعدة فكرية يبنى عليها كل فكر، وتنبثق عنها معالجات لجميع المشاكل والأزمات التي يواجهها الإنسان في جميع جوانب الحياة، فهو دين منه دولة.
إنّ العقيدة الإسلامية تدفع معتنقها إلى أن يرعى شأنه وشأن من حوله بالإسلام وأحكامه ومعالجاته. فرسالة الإسلام رسالة عالمية، جاءت لتنقذ البشرية وتأخذ بيدها إلى برّ الأمان ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، فهو لم يأتِ لاستعمار الشعوب ونهب ثرواتها، ولم يفرق بين النّاس على أساس لونهم أو جنسهم أو مكانتهم المجتمعية أو غناهم وفقرهم فجعل مقياس التفاضل بين الناس هو التقوى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، ومن الناحية الاقتصادية، فإنه نظر للمشكلة الاقتصادية على أنّها تكمن في توزيع الثروة وليست في زيادة الإنتاج، فشرّع أحكاماً لضمان عدالة التوزيع وقسّم الملكيات إلى ثلاث: خاصة وعامة وملكية دولة، وأناط بالدولة مسؤولية توفير الحاجات الأساسية للناس من مأكل ومشرب وملبس وتعليم وتطبيب وأمن، والعمل على توفير حاجاتهم الكمالية، وعلى صعيد الناحية الاجتماعية نظّم الإسلام العلاقة بين الرجل والمرأة وجعل لكل منهما حقوقاً، وجعل عليه واجبات، وجعل الزواج هو الطريق الشرعي لإشباع الميل الجنسي واستمرار النسل، وجعل الأسر تقوم على المودة والرحمة والسكينة وليس على الصراع والندية، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، وشرع أحكاماً من شأنها صيانة المجتمع والحفاظ على قيمه كغض البصر وتحريم التبرج والخلوة.
إنّ الإسلام الذي كفل تحقيق العدل والحياة الكريمة للبشرية بالتشريع قد ضمنه بالتطبيق من خلال الدولة، فالدولة في الإسلام دولة رعاية وليست دولة جباية، يخاف خليفتها أن يحاسبه الله سبحانه إن عثرت بغلة في أي جزء منها فكيف بالبشر، لقد شهد التاريخ أنَّ غير المسلمين تركوا وما يعبدون وما يعتقدون وكيف عاشوا في ظل دولة الخلافة لهم ما للمسلمين من الإنصاف وعليهم ما على المسلمين من الانتصاف دون تفرقة عنصرية وتمييز، وقد شهد التاريخ على عدل دولة الخلافة وكيف كانت تتعامل في سياستها الخارجية مع غيرها من الدول وكيف أنّها كانت تهب لرفع الظلم وإجابة الاستغاثة حتى ولو كانت من غير المسلمين؛ فقد استنجدت فرنسا بالسلطان سليمان القانوني لتخليص ملكها من الأسر، وكما خلصت الدولة العثمانية اليهود من ظلم محاكم التفتيش في إسبانيا.
لقد آن الأوان للأمة الإسلامية لتستعيد موقع الصدارة في العالم، وتقيم دولتها التي ستنشر الخير والعدل في ربوع العالم. لقد آن أوان عودة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.