كيف هدمت الخلافة، وماذا خسرت الأمة؟
إن الخلافة هي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا، لإقامة أحكام الشرع الإسلامي وحمل الدعوة إلى العالم، وهذه الخلافة بوصفها نظام الحكم في الإسلام، أسسها، وأرسى قواعدها النبي الكريم ﷺ بعد صراع فكري، وكفاح سياسي شديدي القسوة، أدى في النهاية إلى انتصار الإسلام على غيره بنجاح. ففي هذه المرحلة أعدّ النبي ﷺ رجالاً للدولة أقوياء، خُلّصاً، كللوا هاماتهم بالمجد، أنبتتهم تربة الإسلام الخصبة، وشربوا من درّه، وبذلوا أموالهم ودماءهم من أجل الإسلام وتأسيس دولته مع نبيهم الكريم عليه الصلاة والسلام.
ابتعث الرسول ﷺ صاحبه مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة التي تحولت خلال عام واحد إلى حاضنة مجيدة للإسلام والمسلمين، وجاء من تلك المدينة أهل القوة والمنعة، وأبناء الحروب، وصاروا أنصاراً لهذا الدين. وبذلك انضمت القوة إلى الفكرة فقامت الدولة بأرضهم، وعندها أُضيف الصراع المادي إلى الصراع الفكري بعد نزول آيات الجهاد.
وتعاقب على الحكم بعد رسول الله ﷺ خلفاء راشدون، طبقوا الإسلام وسيروا الجيوش لفتح البلدان، وانطلقوا بالدعوة، واستمر هذا المد بعدهم حتى اقتعدت الخلافة مركز الدولة الأولى في العالم. وامتدت الفتوحات شرقاً وغرباً حتى وصلت أوروبا، ودخل أهل البلاد المفتوحة الإسلام، بل حملوا لواءه إلى البلاد التي تجاورهم، وأحبّ أهلها الإسلام والمسلمين، لأن الفتوحات في الإسلام ليست من أجل استغلال الشعوب، واستعمارها، ولا من أجل ما في بلادهم من ثروات، وإنما من أجل حمل دعوة الخير، وإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، ومن حياة التعاسة والشقاء والنظم الفاسدة، إلى حياة العزة والكرامة. فالخلافة أسست لحمل الدعوة، وأُنشئ جيشها من أجل ذلك، وفرض الجهاد في سبيل هذا الخير العميم.
إن الدول الكافرة صارت تنهزم، وتقاوم أحياناً، وتراقب هذه الفتوحات بحنق شديد، وبغض يغلي في صدورهم، لأنهم العدو الدائم لهذا الدين، وهذه حقيقة قطعية ثابتة ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾، والدولة الإسلامية تتسع رقعتها، وعليه ظل الصراع الفكري قبل قيام الدولة، والصراع الفكري والمادي بعد قيامها مستمراً بقوة، ولم يكن الكفار غافلين عن ذلك، بل كانوا يفكرون على الدوام للبطش بالإسلام والمسلمين، وتحطيم دولتهم، وكلما واتت لهم الفرصة شنوا هجوماً على المسلمين.
وفي نهايات القرن السادس الهجري، رأت الدول الأوروبية أن الضعف قد سرى في أوصال الدولة الإسلامية، وأن هذه الظروف مواتية لهم، فقاموا بأول محاولة لضرب الإسلام ودولته، فكانت الحروب الصليبية الدموية التي أدخلت المسلمين في امتحان عسير، وزلزلتهم أيما زلزال، وخسر المسلمون فيها مناطق كثيرة خاصة في الشام، وأزهقت فيها المهج والأرواح.. نعم خسر المسلمون تلك المعارك، ولكنهم لم يخسروا الحرب، فسرعان ما رتب المسلمون صفوفهم، ووحدوا هدفهم تحت قادة عظام، دكوا حصون الكفر وهزموهم وأخرجوهم من بلاد المسلمين وطردوهم شر طردة.
وما إن انتهت الحرب الصليبية حتى هجم المغول على الخلافة بغارات سريعة من جهة أطراف الصين، فكانت المذابح الفظيعة، وسقوط كبريات المدن أمامهم، واحتلوا أراضي واسعة من الخلافة. لكن سرعان ما أعاد المسلمون لحمتهم مرة أخرى، وأعلنوا الجهاد، فهزموا المغول، وفر من بقي منهم حياً وما عادوا بعدها أبداً، بل إن كثيراً منهم قد اعتنقوا الإسلام.
بعد هاتين الهجمتين استأنف المسلمون الفتوحات بقوة فدخلوا أوروبا؛ بلاد الصليب الحاقدة، وبسطوا سلطانهم على أجزاء كثيرة منها. عند ذلك فكر الأوروبيون في حملة صليبية ثانية ليست كالأولى التي كانت عسكرية، حيث عرفت أوروبا سبب فشل الهجوم العسكري الأول، فالحملة الصليبية الثانية لا بد أن تكون أعمق وأفظع أثراً، لذلك قرروا أن يسبقها الغزو الفكري والثقافي لقتل الإسلام في نفوس المسلمين، ثم يأتي بعد ذلك إزالة الخلافة من الوجود ومحو الإسلام من معترك الحياة.
الأساليب والوسائل التي هُدمت بها الخلافة:
وضع الغرب خطة طويلة المدى لهدم الخلافة، وتبنى، لإنجاح هذه الخطة، أساليب ووسائل غاية في الخبث والدهاء، ومن أهمها:
1- الغزو الفكري والثقافي:
أخذت أوروبا تغزو البلاد الإسلامية غزوا حضارياً باسم العلم والإنسانية، ورصدت لذلك الميزانيات الضخمة، لتمكين دوائر الاستعمار الثقافي من التمركز في بلاد المسلمين حتى توجد خلية الاستعمار الغربي، فكثرت البعثات التعليمية، وأنشئت الجمعيات التبشيرية، وجذبوا نفراً من أبناء المسلمين إلى أوروبا فنهلوا من ثقافة الغرب في مراكز وجامعات الغرب، فتخرج منها جيش من العملاء الفكريين والسياسيين الذين أسسوا أحزاباً على النمط الغربي، وأوكل الغرب لهؤلاء مهمة نشر ثقافة وأفكار الحضارة الغربية في بلاد المسلمين تحت رعايتهم، وكان الغرض من هذا الغزو التشكيك والطعن في القيم والمفاهيم الإسلامية، ثم طرح البدائل والحلول من صميم الحضارة الغربية النتنة، وهو ما يعبر عنه بحرب الأفكار.
هذا الغزو الفكري كان بالنسبة للمسلمين أشد فتكاً وخطراً من حرب المدافع والصواريخ، لأنه يستهدف العقول والقلوب، فإذا فسدت العقول، وخربت القلوب فقد سقطت أهم الحصون التي تحمي المجتمع، فتسقط معها البلاد من غير قتال، فكان عملاء الغزو الثقافي والفكري من أبناء المسلمين بحق جيش الحرب الباردة على الأمة الإسلامية ودولتهم الخلافة. ثم إنهم في ظل الدويلات الوطنية هذه، أحكموا قبضتهم على مؤسسات الفكر والثقافة، ومناهج التعليم، ووسائل الإعلام.
2- إثارة النعرات القومية والنزاعات الانفصالية:
لقد قام الغرب بتحديث هذا الأسلوب في البلاد الأوروبية التي كانت تحت سلطان الخلافة، فأثارتها في أوساط الصرب وأهل اليونان والمجر… وغيرها، وشجعت هذه الشعوب على التمرد، وأمدتهم بالمال والسلاح، فنجح هذا الأسلوب أيما نجاح، وعليه قرر الغرب المستعمر نقله إلى عمق الدولة الإسلامية، وركز على العرب والترك والفرس بشكل خاص، فبدأت السفارات الأوروبية في عاصمة الخلافة إسطنبول، تثير هذه النعرات، ودعوات الانفصال، والخلافات المذهبية كعادتها إلى يومنا هذا، وصارت هذه السفارات أوكاراً للتآمر والكيد للإسلام والمسلمين، واتخذت لإنجاح ذلك مركزين رئيسيين هما: مركز إسطنبول لضرب الدولة الإسلامية في مركزها الرئيس، ومركز آخر في بيروت لضرب الخلافة في ملحقاتها وخاصة البلاد العربية. ولكل مركز دور يقوم به في العمل على هدم الخلافة من الداخل، فوضع مخطط طويل المدى لمركز بيروت، فبدأ العمل بتأسيس الجمعيات تحت مسميات مختلفة، وأخطرها الجمعية السرية التي أسسها خمسة شباب نصارى عرب تلقوا العلم في الكلية البروتستانتية في بيروت (الجامعة الأمريكية حالياً).
ثم أخذت هذه الجمعيات في تركيز فكرة القومية العربية، وقام على أساسها حزب سياسي، وكانت تدعو للعرب والعروبة، وتثير العداء لدولة الخلافة، وتسميها خبثاً الدولة التركية، وتعمل على فصل الدين عن الدولة، وتجعل القومية العربية هي الأساس في العمل السياسي، وجعل الولاء لها هو مركز التنبه، بدل العقيدة الإسلامية، وكانت تتهم الأتراك وتركيا باغتصاب الخلافة من العرب، وأنها تجاوزت الشريعة الغراء مع أنهم نصارى! وتخرج من هذا المركز عملاء وجواسيس قاموا بأعمال تخريبية ضخمة في بلاد الإسلام!
أما مركز إسطنبول فقط أنيط به ضرب الخلافة في عاصمتها، فقد قام بأعمال كثيرة كان أهمها وأخطرها هو إنشاء جمعية (تركيا الفتاة)، أو (الاتحاد والترقي) حيث تأسست على يد شباب أتراك تشبعوا بالأفكار الغربية، وكانت جمعية سرية ثورية تطالب باستقلال تركيا، وتغلغلوا في أوساط الجيش ومفاصل الدولة، ووصلت الفكرة التي اتخذوها لضرب الخلافة وهدمها إلى الحكم متمثلة في الحزب الحاكم وأنصاره. فكانت نتائج مركز إسطنبول معجلة في هدم الخلافة، لأن تكتل الناس على أساس القوميات يفصلهم عن بعضهم البعض، وتوجد بينهم العداوة والبغضاء والحروب.
وكردة فعل للتركية، قامت جمعيات للعرب والأرمن والكرد والشركس، فتفشت العنصرية في المجتمع الإسلامي حتى برزت بين العرب والترك داخل الجيش، ومن جراء هذا التسميم قامت ثورات في بلاد العرب والترك ضد الخلافة، وأشهرت السيوف في وجهها.
3- الثورات ضد الخلافة:
استطاع الغرب المتآمر أن يفجر ثورات داخل الدولة الإسلامية بواسطة عملائه الذين تم إعدادهم لذلك، وأمدهم بالمال والسلاح، فاندلعت هذه الثورات ودخلت في حروب مع جيش الخلافة، مثل الثورة الوهابية التي قامت في الحجاز إثر الاتفاق والتحالف الذي تم بين محمد بن سعود وابنه من بعده عبد العزيز عميل الإنجليز المعروف، وبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فاستغل الإنجليز هذا الخلاف المذهبي الذي كان يحسم في ميادين الفقه، وأحالوه إلى ساحات القتال، وسرعان ما تحولت من ثورة مذهبية إلى ثورة عارمة وجهت سلاحها إلى الخلافة مباشرة، وصارت معول هدم للدولة من الداخل.
كما اندلعت ثورة عربية أخرى بقيادة حسين شريف مكة، وهو أيضاً صنيعة الإنجليز الماكرين، فكانت ثورة تطالب برد الخلافة إلى العرب، بعد أن أخذها منهم الأتراك وهضمت حقوقهم كما ادعوا! وقد وعده الإنجليز بأن ينصروه وينصبوه ملكاً للعرب. أحدثت هذه الثورة فرقة كبيرة بين المسلمين، لذلك قال لورانس الإنجليزي عن ثورة حسين مكة: (نشاط حسين مهم لنا لتفكيك الرابطة الإسلامية، وهزيمة الإمبراطورية العثمانية). وهذا التصريح يكشف بصورة جلية عمالة هذه الثورات ودورها في العمل لهدم الخلافة.
4– العملاء: ومن أخبث الأساليب والوسائل الهدامة والمميتة، التي اتخذها الغرب لهدم الخلافة، وإزالة الإسلام من معترك الحياة السياسية العملاء بأضرابهم المختلفة، الذين شكلوا الطلائع التي مهدت الطريق للمستعمر لدخول بلاد المسلمين، وتحقيق أهدافه ضد الإسلام والمسلمين وهدم دولتهم، فقد تخرجوا جميعهم من المراكز التي ذكرناها، ومن داخل جامعات أوروبا. ولا شك أن العملاء هم معول الكافر الذي هدم به الخلافة، فهم عينه الدائمة في مراقبة حركة الأمة، وسيفه المسلط عليها، ويده التي ينهب بها ثرواتهم، ورجله التي جاس ويجوس بها خلال ديار المسلمين.
وكان من أخطر العملاء والخونة، والذي كان له اليد الطولى في هدم الخلافة هو مصطفى كمال الذي ظهر كالنبت الشيطاني بالنسبة للمسلمين، أما بالنسبة لأسياده الإنجليز فهو صنيعهم الذي رعوه على عين بصيرة، بعد أن وجدوا فيه ضالتهم، فقد كان هذا الضابط الصغير المغمور عند بدء الحرب العالمية الأولى، فقد كان معروفاً بأفكاره الغربية، وثورته على أفكار الإسلام، وميله للإنجليز، فقام الإنجليز بأعمال مقصودة وحركات مصطنعة لإبراز كمال كقائد مظفر، فاصطنعوا حروبا كثيرة بالانهزام أمامه في هذه المعارك التي يخوضها ضد الحلفاء، وكذلك أوجدوا القلاقل في شرق تركيا، وأشاروا للسلطان بأن يرسل لإخمادها هذا القائد، وقد نجح في إخمادها، وبهاتين العمليتين ذاع صيته، ولمع نجمه، والتف الناس حوله والجيش، حتى ظن كثير من الناس أنه خالد العصر، وأنه سيخرج الحلفاء من تركيا، وسيعيد للخلافة هيبتها ومكانتها، خاصة وأنها خرجت من الحرب العالمية الأولى مكسرة الأضلاع. وكان من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الخلافة هو اتخاذها قرار دخول الحرب العالمية الأولى التي كانت صراعاً بين الدول الكبرى على مركز الدولة الأولى في العالم.
ثم تغلغل الكماليون في الجيش وسيطروا على مراكز اتخاذ القرارات داخل الحكم، وكان مصطفى أول من طلب الصلح مع الحلفاء بعد الحرب، ولكن وجد هذا الطلب معارضة شديدة من السلطنة، بل من الرأي العام، ولكن مصطفى لم ييأس، فقام بأعمال كثيرة حتى مرر هذا الطلب، وتلقاه الحلفاء، واجتمعوا، وناقشوه، واشترطوا لقبول الصلح الشروط التالية:
– إلغاء الخلافة إلغاء تاماً.
– طرد الخليفة خارج الحدود.
– مصادرة أموال الخليفة.
– إعلان علمانية الدولة.
وسرعان ما وافق الكماليون على هذه الشروط، وقام مصطفى كمال بارتكاب هذه الجريمة النكراء في 28 رجب 1342هـ، الموافق 03/03/1924م وألغى نظام الخلافة، وفي الليلة نفسها طرد الخليفة خارج الحدود، وصادر أمواله، وأعلن علمانية الدولة. وهكذا هدم هذا المجرم ذلك الصرح الشامخ الذي أسسه رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ما فقدته الأمة وخسرته بهدم الخلافة:
كانت الخلافة هي الدرع الحامي للأمة، والحفيظة على العقيدة والشريعة، وبهدمها فقدت الأمة وخسرت الآتي:
1- فقدت الأمة سلطانها لصالح غيرها، إما بالسيطرة المباشرة للعدو، أو من خلال تسلط العملاء العلمانيين على بلادنا، وانتقال سلطان الأمة إلى غيرها جعل السيادة ليست للشرع، وحول مفهوم الدولة من رعاية شئون الأمة وأهل ذمتها، إلى رعاية مصالح الغرب وأوليائه وأتباعه في البلاد.
2- فقدت الأمة وحدتها وتآكلت لحمتها بانفراط عقد البلاد الإسلامية، بتقسيمها إلى عشرات الدويلات الكرتونية المتنافرة وفقاً لقاعدة (فرق تسد)، وهذا بدوره قضى على عوامل قوة الأمة، وعزها، وهي الأمة الموحدة، والمبدأ، والدولة.
3- فقدت الأمة هويتها الإسلامية بسبب تفشي المفاهيم الغربية عن الحياة والمجتمع والسياسة، وتطبيق أنظمتها الوضعية العلمانية، ما أدى إلى تحول المسلمين عن الحياة الإسلامية.
4- فقدت الأمة العلماء الربانيين، فبغياب دولة الخلافة الحافظة للدين، صار الحكام في هذه الدويلات الضرار التي قامت على أنقاض الخلافة، يوظفون العلماء، ومن يطلق عليهم الشيوخ، أو مسميات أخرى لم تكن معروفة، كمفتي الديار، ووزير الأوقاف، والحجة، والآية… يوظفون في مناصب الافتاء والاجتهاد، ويسخرون لهم الإعلام الواسع، وليس ذلك من أجل القيام بما هو مطلوب منهم بتوجيه الناس الوجهة الصحيحة في دينهم ودنياهم، بل ليصدروا الفتاوى المضللة، المفصلة على مقاس الحكام الأشرار وأسيادهم الكفار، ويمنع غيرهم من العلماء الربانيين المؤهلين لذلك.