الأرض قاحلة تشتاق أن يغيثها الله بالخلافة
ورد في ملخص صفة الصفوة أن رجلاً لحق بأويس القرني فسمعه يقول: “اللهم إني أعتذر إليك اليوم من كل كبد جائعة، فإنه ليس في بيتي من الطعام إلا ما في بطني، وليس في بيتي من شيء من الرياش إلا ما على ظهري”، هذا حال أويسٍ التابعي، وهو يعيش في ظل دولة الخلافة الراشدة الأولى، وعاصر جميع خلفائها حتى استشهد رضي الله عنه في واقعة صفين. يعتذر لله عن الكبد الجائعة من المسلمين، وخليفتهم ينام تقرقر بطنه فلا يشبعها قبل أن يشبع أطفال المسلمين. فمن للأكباد التي تموت جوعاً اليوم، ولا خليفة للمسلمين ولا دولة تشبع الجائع وتعطي المحتاج وتقضي دين المدينين؟
اليوم إذ نكتب في الذكرى المئوية لهدم الكيان الذي بناه رسول الله ﷺ، الرحمة المهداة للبشرية، في ذكرى هدم دولة الإسلام، نستقرئ حال البشرية بلا شريعة ربها. فإذا بها كما أنبأ القرآن قبل أربعة عشر قرناً، في معجزة جديدة تؤكد اليقين من صدق رسول رب العالمين: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾. بهذه الكلمة الواحدة: ضنكاً، يلخص الله سبحانه حالنا. والضنك هو الضيق والشقاء، وهو لا بد ضد الرحمة، فالله سبحانه قال عن رسوله ﷺ: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾.
يتحكم بمقدرات الشعوب بضعة نفر، المال والقوة والنفوذ السياسي في قبضتهم. يموت الألوف جوعاً كل يوم، فلا يعبأ بهم أحد ولا يبكيهم لله إلا فقراء مثلهم. تنتهك أعراض الألوف أيضاً، يُقتل عشرات الآلاف، يعيش الملايين بلا منازل تؤويهم، ولا يبكيهم إلا آخرون مهددون أيضاً بأن يكونوا ضحايا في اللحظة التالية. قال مارك ريدلي توماس، المشرف على مقاطعة لوس أنجلوس، في تقرير بثته الـcnn الأمريكية في تموز/يوليو 2019، “إنها ذروة التناقض، فى خضم الازدهار الكبير عبر جولدن ستايت، نشهد أيضاً زيادات غير مسبوقة في التشرد، ولقد مرت الأزمة بسنوات عديدة دون أي حل سهل في الأفق”. حيث وصل عدد المشردين في لوس أنجلوس وحدها 60 ألف شخص.
فالبشرية تشهد أكبر عملية سرقة لمقدراتها وفساد في التشريع يجعل اللص يشرع القوانين! هذه القوانين لا تقتصر على النظام الاقتصادي، بل تتعدى الأمر لأتمتة حياة الإنسان، إن صح التعبير؛ تحويل الناس لمجرد أرقام، دمى في المسرح، متغيرات في نص برمجي… ويتغير نمط الحياة كما تريد الطغمة الحاكمة التي تشرع للبشر ما ينظم حياتهم حسب أهوائها ومصالحها.
اتفاقيات تشرعن للزنا والشذوذ، تروج للسفاسف وترفع العالة السفهاء لتصنع منهم نجوماً وقدوات! تُحارب العفة، ويُفتح الطريق المفروش بكل ما يدعو للرذيلة. مشروع واضح المعالم، والهدف تدمير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتدمير المنظومة التي تربي القدوات الحقيقية وتصنع الإنسان الذي يريده الله سبحانه ليكون أهلاً للاستخلاف في الأرض حقاً. ولك أن تعلم أن طفلة عربية – عمرها 10 أعوام تقريبا – تقدم محتوى في يوتيوب عن يومياتها بقالب ترفيهي، بلغ مجموع مشاهدات قناتها 13 مليار مشاهدة! وبلغت مشاهدات أعلى مقطع قدمَتْه 300 مليون مشاهدة! فيما بلغ عدد المشتركين في قناتها 27 مليون مشترك.
فالأمر واضح إذاً: حرب بين أجناد الرحمن وأتباع الشيطان. وإنما يدعو الشيطان حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
حال البشرية يتلخص في مشهدين: نساء كاسيات عاريات يعرضن أنفسهن بكل وسيلة يستطعنها، وكلٌ بالشكل الذي تراه مناسباً لمعايير “تدينها”، فقد صار الدين للأسف إطاراً مطاطياً يتقولب حسب الأهواء، وتجد مثلهن الملحدة والبوذية ومن كل دين ولون وحّدهن النظام العالمي في إطار واحد: تسليع المرأة واتباع الهوى. ونساء يكافحن ليسددن رمق أطفالهن، رمت بهن الرأسمالية في معمعة الحياة بلا رحمة، مع زوجها الذي سلبته الرأسمالية عمله وجردته من رجولته بعد أن حطمت مفاهيم القوامة والرعاية وحسن الصحبة في كيان الأسرة.
وقد ذكرتُ المرأة وركزت عليها لسببين؛ الأول أن النظام الرأسمالي اليوم الذي أهلك الحرث والنسل، وجّه حربته للمرأة. فكل المعارك الجانبية والرئيسية، الفكرية منها والعسكرية، وما يدور معها في الاقتصاد والسياسة العالمية والنظم الاجتماعية يجعل الغرب عنوانها: المرأة وحقوق المرأة. والثاني أن المرأة حقيقة هي البوصلة؛ هي التي بفسادها تفسد المجتمعات وتنهار الأسر، وبصلاحها تنهض الأمم وتستعيد سلطانها. وربما يظهر من كلامي بعض الاعتداد المبالغ فيه بدور النساء وأهميتهن، لكن هذا الاعتداد منبعه وصية رسول الله ﷺ للنساء وعليهن. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ… وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا» وعن ابن عمر أيضاً أن رسول الله ﷺ قال في آخر عهده بالدنيا: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ». ولكم أن تقدروا المسؤولية والأهمية التي تخص المرأة، إذ قرن رسول الله مسؤوليتها بمسؤولية الحاكم عن رعيته، وجعلها أمانة في عنق الرجال كالصلاة وهي عمود هذا الدين!
وبشكل أشمل، بعيداً عن المرأة وحقوقها، لا تزال الحكومة البوذية في سريلانكا تصر على حرق جثث المسلمين رغم الرفض القطعي والمتصاعد من المسلمين في العالم وفي سريلانكا خاصة، بينما تستمر الصين في عدوانها الآثم على الإيغور، ولا تزال بورما وكشمير والهند والبوسنة وأفريقيا الوسطى وفلسطين والشام، تشهد اعتداءات يومية في عدوان ممنهج وحشي ضد المسلمين الذين لا حول لهم ولا قوة، مكشوفي الظهور، صدورهم عارية يواجهون أعداءهم متفرقين. بينما العدو يهاجم بلا رحمة، يجمع جحافله ويوحد جهوده في توجيه الضربات بشكل مستمر ودون رحمة. فالمشهد في العالم الإسلامي: حروب وسفك دماء، فوضى خلّاقة وتخلف علمي وصناعي غير مسبوق، وفي الخلفية ترتفع ضوضاء الزحام على طوابير الخبز!
هذه المشاهد ليست حكراً على بلاد المسلمين. فالتقدم العلمي والصناعي الذي عدمته بلادهم وامتازت به بلاد الغرب لم يشفع للشعوب الغربية لينقذها من ضنك غياب الإسلام. بل ربما يكون الوضع في بلاد المسلمين أقل وحشية وأخف دموية لولا الحروب العسكرية التي تشنها جيوش أمريكا وبريطانيا على أهل أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها. فجرائم القتل وصلت معدلات غير مسبوقة في أمريكا وروسيا وأوروبا، وما الاحتجاجات التي شهدتها الولايات المتحدة في 2020 ضد العنصرية وكراهية السود سوى مثال صارخ على معاناة المجتمعات الغربية في ظل الرأسمالية. وتجارة السلاح وانتشار عصابات المافيا صار كابوساً أفقد أهل هذه البلاد الشعور بالأمان المزعوم في بلاد تفاخر بوجود الديمقراطية وحرية الإنسان. فحسب موقع DW بالعربية تعد صفقات تجارة السلاح من أغلى الصفقات رواجاً في العالم بسبب الحروب والنزاعات المحلية والدولية… ويقدر الخبراء أن صرف جزء صغير من أموالها يكفي لحل مشاكل الفقر والبطالة في العالم. هذا غير معدلات الاغتصاب للأطفال والنساء والاعتداء عليهم من الأقارب من الدرجة الأولى. بل تنتشر الرذيلة عندهم حتى صار الزواج هو الأمر النادر الغريب بعدما كان مواليد الزنا عاراً في المجتمع الغربي في بدايات القرن الماضي. واليد الطولى في ذلك للحضارة الرأسمالية، وغياب النظام الرباني الذي يقف في وجه هذا الإفساد في الأرض.
الله سبحانه بعث رسول الله رحمة للعالمين، وابتعث هذه الأمة بالإسلام لتخرج البشرية من ظلمات الأديان وجورها لعدل الإسلام ونوره. وقد غرقت البشرية في الظلام الدامس منذ هدمت دولة الإسلام، ولا تزال في هذا الظلام غارقة حتى اليوم، تتلمس سبيلاً للخروج من سرداب الرأسمالية الذي أشقاها على جميع الصعد وأودى بها إلى المهالك لأجل مصالح قلة قليلة. ولا سبيل للبشرية إلا بمبدأ صحيح يستطيع مواجهة الرأسمالية في المعركة الفكرية، وفي الأساس الذي تقوم عليه هذه المعركة: التسليم لله سبحانه بأنه الله الخالق الذي يستحق العبادة وحده كما يستفرد بالتدبير وحده بلا منازع. وهذا هو الإسلام الذي يمتلك كل المقومات التي تؤهله للانتصار في هذه الحرب، ورعاية شؤون الناس بالرحمة والعدل لتكون الأرض موطن استخلاف كما يريدها الله، ويعيش الناس فيها بأمن يحفظ أنفسهم وأموالهم وكرامتهم، ويؤمّن لهم بيئة تصلح للعيش كما كرمهم الله فتفح لهم آفاق الإبداع وتهديهم سبل النجاة.
فالإسلام هو الوحيد الذي يستطيع إنهاء هيمنة الرأسمالية وإنقاذ البشرية؛ عبر تشريعاته التي جاءت بالوحي من رب العالمين؛ التشريعات التي تضمن التكريم والرعاية لكل فرد دون النظر لعرقه أو لونه أو جنسه، وتفرض على المسؤول القيام بواجبه تجاه من يعولهم وهو مسؤول عنهم، بل ويترتب على ذلك الثواب والعقاب في الدنيا عبر منظومة القصاص والعقوبات في الإسلام وفي الآخرة. فالإسلام مبدأ متكامل: لكل عمل جزاء، ولا مفر من ذلك. الله يقولها لنا صراحة: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ بهذا القانون الإيماني يجعل الله سبحانه المسؤولية عن كل عمل يتولاه أي فرد أمانة يُحاسب عليها وعبادة يجتهد ليؤديها على وجهها.
الإسلام الذي يكلف المسلم بعمارة الأرض ويجعل الحاكم مسؤولاً أي مُحاسباً عن رعيته، وأعطى الرعية حق المحاسبة وجعل لها السلطان الحقيقي، كما جعل للحاكم حق الطاعة. فلا حاكم يستقوي بمنصبه ولا رعية تتمرد على الحاكم. ولا فضل لعربي على أعجمي، بل الجميع سواسية كأسنان المشط، والتفاضل بالتقوى. والتقوى سر بين الله وعبده. فالكلمة الفصل هي لله ورسوله، فالسيادة للشرع. هذا هو المبدأ الذي يستطيع الوقوف بوجه الرأسمالية بما أوجدته من طغيان المادة وفساد الحكام وفوضوية الرعية وانتشار الجهل والعبثية والتفاهات وسيطرة الفوضى وغياب العقل وتغييب العلم وأهله.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾