أسباب انحطاط المسلمين وما نتج عنه
منذ فجر الإسلام حين بُعث محمد ﷺ بدأ الصراع بين الإسلام والكفر، واستمر هذا الصراع على أشده بين أفكار الإسلام وأفكار الكفر، وقد بدأ هذا الصراع فكريا بحتا إلى أن تكلل بإقامة دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة، وبعدها ضم إلى جانب الصراع الفكري الصراع المادي (العسكري) وبدأت آيات الجهاد تنزل على رسول الله ﷺ وكان النصر فيه للإسلام والمسلمين واستمر ذلك قرابة ستة قرون أي إلى القرن السادس الهجري، الحادي عشر الميلادي، وكانت الدولة الإسلامية خلال هذه الفترة هي الدولة الأولى في العالم. وقد حاول الكفار مواجهتها بالحروب الصليبية إلا أنهم خسروا جميع محاولاتهم التي قاموا بها خلال تلك الحقبة من الزمن، وكانوا، أي الكفار ولا سيما الدول الأوروبية، يتتبعون المجتمع الإسلامي وسير الدولة الإسلامية؛ ففي أواخر القرن السادس الهجري الحادي عشر الميلادي أدركت الدول الأوروبية ما آل إليه نظام الحكم في الدولة الإسلامية من تفكك في الولايات واستقلال الولاة بأهم شؤون الحكم الداخلي فشنوا هجوما على المسلمين، واستمر قرابة مئة عام، وما إن انتهت الحروب الصليبية، حتى جاء المغول فكانت مذبحة بغداد، إلا أن الأمة الإسلامية سرعان ما عادت وكانت معركة عين جالوت التي انتصرت فيها على المغول وعلى إثر هذه المعركة تحركت مشاعر الجهاد في نفوس المسلمين وعادوا إلى استئناف حمل الدعوة إلى العالم.
ومن تتبع تاريخ الدولة الإسلامية فقد مرت الأمة الإسلامية بفترات تدهور كثيرة إلا أنها سرعان ما كانت تعود إلى عملها الأصيل وهو حمل الدعوة إلى العالم، ولكن الفترة التي نعيشها اليوم تختلف عن الفترات السابقة، لقد أُصيبت الأمة الإسلامية منذ قرنين من الزمن بانحطاط فظيع حتى وصل بها إلى الانحدار الشديد.
ولهذا كان لا بد من معرفة العوامل التي دفعت الأمة الإسلامية في هذا المنحدر السحيق، وما هي أبرز الأحداث التي ساعدت على انحدارها وأدت إلى إسقاط دولة الخلافة الإسلامية.
لقد كان للثورة الفكرية والصناعية التي حدثت في أوروبا في تلك الحقبة من الزمن أثر على الدولة الإسلامية لأنها كانت بالمقابل في حالة من الجمود، وسوء الفهم، وإساءة التطبيق، مما أوهن جسم الدولة وكيانها، ناهيك عن الأحداث المريرة التي سبقت ذلك التقدم الصناعي في أوروبا، بل وصاحبته بصورة مستمرة وأبرزها: آثار الحروب الصليبية التي استمرت أكثر من مائتي سنة، وحملة نابليون على مصر واحتلالها، واستعمال الفتن الداخلية، ومحاولات الغرب التدخل في شؤون الدولة الداخلية مثل الفتنة بين النصارى والدروز في لبنان سنة ١٨٤٠حتى سنة ١٨٦٠، والحرب مع روسيا والتي استمرت منذ ١٧٦٢ حتى ١٧٩٦، وقد احتلت روسيا شبه جزيرة القرم ووصلت شواطئ البحر الأسود، ونصبت نفسها حامية للنصرانية في الدولة العثمانية، ثم اقتطعت تركستان وبلاد القفقاس، واحتلال فرنسا لتونس عام ١٨٨١، واحتلال إيطاليا ليبيا عام ١٩١١، واحتلال بريطانيا لعدن عام ١٨٣٩، وإبعاد المسلمين عن سيادة الهند وتسليمها للنصارى والهندوس، واستيلاء بريطانيا على مصر عام ١٨٨٢م٠
أضف إلى ذلك إثارة النعرات القومية والوطنية في جسم الدولة وكيانها، وذلك مثل نشوء الأحزاب القومية مثل جمعية الاتحاد والترقي وجمعية المنتدى العربي وغيرها من الأحزاب القومية التي استهدفت جسم الدولة من داخلها فغرست فكرة القومية بين أبناء الأمة الواحدة مما أدى إلى تمزيق وحدة الأمة، وعملت جميعها على هدم هذا الكيان الذي يحميهم. وانتهت جميعها بإطلاق الرصاصة عليها في الحرب العالمية الأولى التي اشترك فيها العرب ضد دولتهم بالثورة العربية التي قادها الحسين بن علي فيما يطلق عليها الثورة العربية الكبرى. فأزالوا كيان الدولة وهدموا الخلافة وأعلن مصطفى كمال اليهودي إلغاء نظام الخلافة في الثامن والعشرين من رجب لسنة ١٣٤٢هجرية الموافق للثالث من آذار لسنة ١٩٢٤ميلادية. هذه هي العوامل والأحداث التي تسارعت ونتج عنها هدم دولة الخلافة العثمانية، وتمزيق وحدة الأمة الإسلامية. ولكن ما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟!
لقد أدرك الكفار ولا سيما الدول الأوروبية أنه لا يمكن القضاء على الدولة الإسلامية وعلى الإسلام إلا بزعزعة الثقة بالإسلام في نفوس المسلمين، وسوء فهمه، وإساءة تطبيق أحكامه. أما إضعاف فهمه فكثيرة منها ما يتعلق بالنصوص ومنها ما يتعلق باللغة العربية التي هي لغة القرآن وبها نزل على رسول الله ﷺ. فأدت هذه الأعمال التي قام بها عند المسلمين إلى ضعف شديد طرأ على أذهان المسلمين في فهم الإسلام وسبب هذا الضعف هو فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية حين أهمل أمر اللغة العربية في فهم الإسلام وأدائه منذ أوائل القرن السابع الهجري لأن اللغة العربية هي لغة الإسلام وجزء جوهري فيه، ولأنّها الطاقة اللغوية التي حملت طاقة الإسلام فامتزجت بها بحيث لا يمكن أداء الإسلام أداء كاملا إلاّ بها، وقد نتج عن فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية توقف الاجتهاد فزاد الطين بلة.
ثم الغزو الثقافي الذي قام به الغرب، بعد فشله في الحروب الصليبية وإدراكه أن المسلمين لا يؤخذون بالقوة، فما إن بدأت ثورته الفكرية والصناعية، ورأى عيون المسلمين وقد بهرتها أضواء النهضة الأوروبية حتى بدأ بخطط الغزو الفكري والثقافي، فاختفى وراء شعارات زائفة مثل الإرساليات التبشيرية، والبعثات التعليمية، والمساعدات الطبية، وبدأ يبث سمومه في جسم الدولة وأذهان المسلمين، فحمل للمسلمين حضارة غير حضارتهم وثقافة غير ثقافتهم، ومفاهيم غير مفاهيمهم، ويوهم المسلمين أن هذه الحضارة وهذه المفاهيم مأخوذة من الإسلام ومستنبطة من روح الإسلام، وكثيرا ما نسمع الآن من بسطاء الناس من يقول إن الغرب أخذ إسلامنا ونهض به وتركناه نحن، ولم تنطل هذه الخدعة على العامة فحسب بل شملت جمهرة المثقفين وممن ضبع بثقافته.
وبهذه الأسباب استطاع الغرب الكافر المستعمر أن يدس ثقافته في أذهان المسلمين ويزرع فيهم الفرقة والتشتت وإبعادهم عن دينهم، وما زال يعمل جاهدا للحيلولة دون عودة المسلمين لعزتهم وإقامة دولتهم دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.