أليس الصبح بقريب؟!
إن المسلمين منذ أن سيطر عليهم حكم الكفر بعد هدم دولة الخلافة سنة 1924م، وصارت إلى الكفار والمنافقين والمرتدين أمورهم، وهم يحاولون أن يتحرروا من سلطان الكفر، وسيطرة أربابه وأعوانه. فالمسلمون لم يتوقفوا عن المقاومة يوما، بل قاموا بمحاولات عديدة للنهوض وإعادة سلطانهم المغصوب، وعندما احتلت بلادهم، قاوموا المستعمر بكل السبل حتى أفقدوه صوابه، ما اضطره للخروج بقواته العسكرية، ولكنه للأسف الشديد ترك فئة من أبناء الأمة باعوا أنفسهم للشيطان ليكونوا خدما لمصالح الغرب الكافر في بلادنا. وبعد أن انخدع الكثير من أبناء الأمة بأولئك الحكام وظنوا أنهم قد تحرروا فعلا من الاستعمار، ورفعوهم فوق الرؤوس والتفوا حولهم، إذا بهم يُصدمون من الحالة التي وصلت إليها بلادهم، فقد انتشر الفقر والجهل والمرض، وتسلط الحكام على أرزاقهم ومعاشهم، وأصبحوا ألعوبة بيد أعدائهم. هنا أدركت الأمة أن هؤلاء الحكام ليسوا سوى أذناب للكافر المستعمر، فبدأت في التململ، ثم تحركت في تونس ومن ثم تبعتها مصر وليبيا وسوريا واليمن والسودان، بيدَ أنهم بعدَ أن خلعوا بعض حكامهم، لم يدركوا أنَّ تغيير النظام لا يكون فقط بإزالة رأسه، بل يجب تغيير النظام برمته، وتطبيق نظام من صميم عقيدتهم.
منذ انطلاقة الثورات في بلادنا، ظهر اتجاه مضاد لها بقيادة القوى الغربية وحلفائها في الخليج للسيطرة عليها، بل وتحطيمها، فلقد حاولوا باستماتة الإبقاء على الهيمنة الغربية بشكلٍ أو بآخر. ولقد نجحوا إلى حد كبير في ذلك، فاستطاع الغرب إعادة الأمور في مصر إلى ما كانت عليه، فبعد أن تمت شيطنة التيار الإسلامي وإظهار فشل الإخوان في الحكم والإدارة لينفض الناس من حولهم، تم إسقاطهم والتنكيل بهم وبغيرهم من المعارضين، واستنسخ نظام مبارك مرة أخرى وبشكل أكثر بشاعة. وفي تونس تم لهم ما أرادوا فقد تخلت حركة النهضة عن الإسلام السياسي ودخلت في الديمقراطية كافة. ورغم ما قام به الرئيس التونسي قيس سعيد من انقلاب على الحكومة، بدعوى محاربة الفساد، إلا أن الواضح لكل ذي بصيرة أن حركته تلك تصب في صالح الغرب وبالذات فرنسا، وما هي إلا محاولة لإعادة تدوير النظام، وفي الوقت نفسه تثبيت النفوذ الفرنسي في البلاد. وفي سوريا تكالبت كلاب الأرض على ثورتها حتى لا تنجح، وحتى ييأس الناس من القدرة على التغيير.
وقد تم لهم ذلك لعدم وجود مشروع أو برنامج سياسي مناهض للهيمنة الغربية، وبديل عن النظام الحالي لدى القوى الفاعلة الأساسية على المسرح السياسي. وقد وضح هذا بعد فشل الإخوان في مصر، والنهضة في تونس في إحداث أي بوادر لنهضة حقيقية، وفي معالجة مشاكل الناس في البلدين. والذين يتصدرون المشهد السياسي الآن لا يملكون أيضا أي تصور للنهوض بالبلاد، كما لا يملكون القدرة على معالجة مشاكل الناس الحقيقية. وهم في الحقيقة ليسوا إلا عملاء وضيعون ينفذون ما يمليه عليهم أسيادهم في الغرب، مقابل أن يبقيهم على كراسيهم.
نعم لقد استطاع الثوار إزالة كابوس الطغاة ومخابراتهم، وقلصوا نفوذ العصابات الناهبة للثروات، إلا أن ذلك حصل لفترة من الزمن قليلة، ولم يدم طويلا. فلم يخرج الحكم في بلاد الثورات من قبضة الغرب، إذ لم يخرج بخروج مبارك من الحكم في مصر، ولا بهروب بن علي من تونس، ولا بقتل قذافي ليبيا، ولا بهروب علي صالح في اليمن. ولا خرج باستلام المجلس العسكري للحكم في مصر، ولا حتى بمجيء الدكتور مرسي للحكم، ولا بهيمنة السيسي على مقاليد البلاد بشكل فعلي، ولا بوصول حركة النهضة للحكم، ومن كان يظن ذلك فليراجع نفسه. فما زالت الهيمنة الغربية واضحة على كل مفصل من مفاصل الحكم في بلاد الثورات. لقد دعم الغرب كل الثورات المضادة، وقد بات واضحا سعي الغرب لتأسيس ديكتاتوريات جديدة تحت مظلته.
فهل نحن بصدد صناعة الزعيم صاحب السلطة المطلقة؟ وهل يمكن أن تعود الأمة لتساق مرة أخرى بالحديد والنار؟ وهل تم تدجينها مرة ثانية، وبث الخوف والرعب في قلوب أبنائها؟ يقول المفكر الفرنسي لوبواسييه “أي رذيلة هذه! أن نرى عددا لا حصر لهم من البشر لا أقول يطيعون بل يخدمون، ولا أقول يحكمون، بل يستعبدون، لا مِلك لهم ولا أهل، بل حياتهم نفسها ليست ملكا لهم، ويحتملون السلب والنهب وضروب القسوة، لا من جيش أجنبي، ينبغي عليهم الذود عن حياضهم ضده، بل من واحد لا هو هرقل ولا شمشون بل هو في أكثر الأحيان أجبن من في الأمة، وأكثرهم تأنثا! ومع ذلك فهذا الطاغية لا يحتاج إسقاطه إلى محاربته وهزيمته، بل يكفي الامتناع عن طاعته، فالشعوب هي التي تترك القيود تكبلها، أو قل تكبل نفسها بنفسها”. ولا أظن أن أمتنا يمكن أن تقع في هذه الرذيلة مرة ثانية، ولا يمكن أن ترضى بأن يحكمها أرذل الناس وأجبنهم، وهي وإن كان يبدو أنها قد استكانت بعد أن قدمت العديد من الأرواح دون أن تجني أي ثمرة لكفاحها، إلا أنها لا يمكن أن تستسلم، وهي ولا شك تستجمع قواها، لكنها في الوقت ذاته تنتظر من يتقدم لقيادتها بشكل صحيح، وعلى منهج مستقيم، كي يحقق معها وبها التغيير المنشود.
وإذا كانت الجولة الأولى من الثورات قد احتاجت جرعة كبيرة من الجرأة والشجاعة، لإنتاج ذلك المشهد البطولي الذي رأيناه، فإنَّ الجولة الثانية، تحتاج إلى مراجعة للنفس، وإنعام الفكر وعمق النظر وسعة الوعي والعمل الدؤوب. فقد تبين للأمة أن التغييرَ الحقيقي لا يحصل بدحرجة الرؤوس الكبيرة وحسب، بل يبدأ بالفكر ويستمر بالفكر والعمل، ويُحصَدُ بوصول برنامج سياسي حقيقي إلى سدة الحكم، لا بمجرد رفع شعارات واستنساخ أنظمة غربية لا تعبر عن عقيدة الأمة وحضارتها، أو الإبقاء على ما هو قائم مع إضافة بعض المساحيق له. يعمل هذا البرنامج السياسي الحقيقي على إعادة صياغة المجتمع والدولة صياغة جديدة، تُنتِجُ لنا حياة جديدة بطريقة عيش جديدة؛ جديدةٍ ثقافةً وحكماً واقتصاداً واجتماعا وتعليما وقضاء وإعلاما وسياسة خارجية، تقطع كل صلةٍ بالحضارة الغربية التي اكتوى العالم بلهيبها واحترقَ بنارها وحروبها، واختنق بدخانها الأسود، وتعفّن بنتنها وسُحق باقتصادها الغاشم وتاه بضلالها، إنه خيار واحد لا غير، الإسلام من حيث هو مبدأٌ، عقيدة وشريعة، فكرة وطريقة، ومزج بين الروح والمادة، حضارة تؤسس لمدنية متألقة زاهرة على أساس روحي عميق راسخ.
إنَّ من أعمق وأقوى أسباب وصول الإسلاميين إلى الحكم في أكثر من بلدٍ عربي، أنَّ المسلمين يحبون إسلامهم، ويستجيبون لكل داعٍ له، بغض النظر عن أهداف الداعي الحقيقية ووعيه على الإسلام. وهذا كان يحتم على الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة أن يدركوا أن معركتهم لم تنتهِ، بل إنها قد بدأت لتضعهم في اختبار حقيقي يظهر للناس مدى قدرتهم على رعاية شئونهم، ويضيف عليهم مزيدا من المسؤولية في الجِد والصدق في الأخذ بالإسلام، والحرص عليه، ولن يعفيهم حديثهم عن الإسلام باعتباره “مصدر إلهام” أو “مصدرا رئيساً” فحسب، أو قولهم إن الحرية يجب أن تتجذر في المجتمع قبل الحديث عن تطبيق الإسلام، أو توفير العيش الرغيد والنهوض بالاقتصاد قبل تطبيق الإسلام، ذلك أن مثل هذه الأطروحات ما هي إلا تلاعب بأحكام الله، والتفاف عليها وتملص من وجوب تطبيقها، وهذا حمل المسلمين المخلصين على أن ينفضوا من حول هؤلاء “الإسلاميين”، لأنهم إنما صوتوا لهم في الانتخابات كي يحققوا أمانيهم بتطبيق شريعة الله، فهي وحدها التي ستوفر لهم الحرية بمعناها الحقيقي بألا يكونوا عبيدا لأحد سوى الله، وهي وحدها التي ستوفر لهم الأمن والعدل وتؤمن لهم العيش الرغيد، وبها وحدها سيتحقق لهم النهوض.
إنَّ تجربةَ “الإسلاميين المعتدلين” في الحكم قد فشلت بشكل واضح لا يمكن إنكاره، ليس لأنهم حكموا بالإسلام بل لأنهم لم يحكموا به! ولا يَظُنَّنَّ ظانّ أن هذا الطريق المعوج الذي ساروا فيه هو الحكم النهائي على مسيرة الإسلام، بل هي آية أخرى من آيات الله؛ أن الذي يحيد عن طريقه المستقيم وعن الانصياع لأحكامه لن يفلح ولن ينصره الله؛ فالإسلام هو الدين الحق والرسالة الخالدة، قد وجد قبلهم وسيستمر من بعدهم يقيناً، وكل تجربة فاشلة هي نتيجة معصية وحَيْدٍ عن هذا الحق يبوء بها أصحابُها بالإثم ولا تحسب على الإسلام.
ما زال الأمل معقودا على المخلصين من أبناء الأمة لإعادة الكرة مرة ثانية لإسقاط تلك الأنظمة وإقامة نظام الإسلام، ومهما حاولت أمريكا وغيرها من دولِ الكفر ثنيَ الأمة عن السير في طريقِ التغيير إلى آخره، فإنَّ الأمة اليوم لن توقف حركتَها القويةَ تلك، أيةُ قوةٍ مهما كانت، وستفشل خطط أمريكا التي تصل الليل بالنهار لمنع الأمة من زلزلة عرشها في بلادنا. وسيأتي قريبا اليوم الذي نخرج فيه من القبضة الأمريكية، ويعود لنا سلطاننا المغصوب. أليس الصبح بقريب؟!
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حامد عبد العزيز