جريدة الراية:
شهر رجب! بأي حدث يذكّر؟
وأية مأساة ينكر؟ وأي عمل يعظّم؟
شهر رجب يحمل ذكريات تناسبه، التعظيم معناه، حدث فيه ما حدث من الأمور العظام، كرم الله فيه عبده ليلة الإسراء، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه عرج إلى السماء، لئلا ينسى أهله ما يحيق بهم من الأخطار وهجمات الأعداء، فجعله مركز تنبه ويقظة لهم إذا غشاهم النعاس.
وهو شهر محرم معظم أصم لا تسمع فيه قعقعة السلاح، إلا من اعتدى على حرمات الإسلام، تصب فيه الرحمة ويبشر بقرب قدوم رمضان شهر الخيرات والفتوحات.
حدثت فيه فعلة شنعاء نكراء، ارتكبها دعيّ يدّعي أنه أبو الأتراك، وهم منه براء. إذ قام في غفلة منهم بهتك ستر عرضهم وسر عزهم وحامي حماهم. فهدم الخلافة وعطل الشريعة وأباح الرذيلة ومنع الفضيلة. وأعلن كل ردية من جمهورية وعلمانية وديمقراطية. انحاز إلى فئة الكفار الغربيين الغرباء، وتخلى في معاهدة لوزان قبل مئة عام عن كل الولايات العثمانية للقوى الاستعمارية. فأذل الأعزاء وجعل الناس يعظمونه ويمجدون ما قام به من خيانات وجرائم في حقهم وحق الإسلام.
لم يدرك الناس آنئذ مدى عظم إثم السكوت على تحطيم تاج الفروض، فلم يتخذوا تجاه الأمر إجراء الموت أو الحياة، فلم يجعلوها مسألة مصيرية تفدى بها المهج والأرواح، تستحق كل تضحية وفداء، فلم يتخذوا إجراء قدوتهم الحسنة ﷺ «حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ» أو «حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ». وظل هذا التغافل وعدم الإدراك يسيطر على كثير من الناس حتى أنساهم أنفس النفائس.
أصبح كثير من المسلمين لا يدركون مدى عظم هذا الفرض، ومدى عظم الإثم على تركه. فقد غيبتها أذهانهم تماما بشكل مقصود هذه الأنظمة التي أقامها المستعمر وأدواته من سوقة ومنتفعين ووسائل تعليم، مدارس وجامعات، ووسائل نشر وصحافة وإعلام وشبكات، حتى المساجد لم تنجُ من ذلك، فوظفوا المشايخ أنصاف العلماء، ممن حملوا شهادات وسموا زورا علماء، باعوا بآخرتهم دنيا غيرهم. بل عمدت الأنظمة الجائرة ومن سار معها إلى تقبيح فكرة الخلافة وتشويهها واستصغار شأنها كلما وردت على بال. وحصروا الإسلام في العبادات والأخلاق واعتبروا ذلك قمة التقوى والإيمان. لقد خطط الاستعمار لذلك بأخبث تخطيط، حتى جعل المسلم عدوا لدينه، يتصدى لمن دعا لحكمه وتحكيمه. فسخر الغرب الكافر أبناء المسلمين لمحاربة فكرهم وسر عزهم وسؤددهم.
هذا الشهر كما يذكر المسلمين بهذه المأساة الأليمة، فإنه يلهب مشاعرهم ويوقظ فكرهم، فيحفزهم على العمل بكل جد وإخلاص لإعادة الخلافة مجدهم وتاج رأسهم. فالثقل كل الثقل على الواعين المخلصين الذين أدركوا كل ذلك، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
فلا يجوز لهم أن يتوقفوا ولو لحظة واحدة عن العمل الدؤوب، وبذل الغالي والنفيس، فالخطب جلل، والمسير طويل، والعمل من جنس الهدف، فلا يجوز القيام بأعمال ليست على مستوى الحدث وما يقتضيه الهدف، فكل ذلك مضيعة للوقت وهدر للطاقات.
فهذا الهدف ليس أي هدف، فيقتضي الصراع الفكري مع كافة الأفكار والتوجهات المخالفة للإسلام، والصدع بفكر الإسلام لا سواه، فكل فكر يخالف الإسلام هراء، يحارب بلا هوادة، فلا توفيق بين الأفكار سقيمها وصحيحها ولا ادعاء تشابه بين الآراء، فالفكر لا يؤخد إلا من النبع الصافي، من النور الساطع سنة وقرآن، بفهم صحيح ودقيق وعميق، فلا يؤخذ من الفلسفات والثقافات والمبادئ الغريبة والأفكار الدخيلة، لا شرقية ولا غربية فكلها جاهلية.
ويقتضي القيام بالكفاح السياسي مع الأنظمة القائمة على أنقاض الخلافة، فلا مهادنة ولا مداهنة ولا مجاملة معها، ولا تملق للقائمين عليها، فقد مردوا على النفاق والخداع، فلا يخافون الله وهم يوالون الكفار، فلا سكوت عليهم وعلى أنظمتهم الخائنة. فوجب فضح مفاسدها وعفنها وتآمرها وسوء رعايتها وعقم معالجاتها، وضرب العلاقات بينها وبين الناس حتى ينفضوا عنها وينقلبوا عليها ويقلبوها مع القائمين عليها.
ويقتضي كشف خطط الاستعمار ومؤامراته وحض الناس على إفشالها وإحباطها، والعمل على إسقاط المنفذين لها من حكام وساسة عملاء. وهذا يقتضي متابعة الأحداث وتحليلها وإعطاء الرأي السياسي فيها، ومن ثم إعطاءه من زاوية الإسلام.
ويقتضي نشر الوعي السياسي لدى الأمة، حتى تنظر إلى الأحداث كل الأحداث من زاوية الإسلام لا غير، والعمل على قيادتها. فأضحت المسألة هذا وذاك، وكيفية كسب ثقة الأمة حتى تسلم قيادتها لحملة الدعوة الأخيار، الذين حملوها فكرة وطريقة، لا تنفكان بعضهما عن بعض.
فيجب العمل بدون ملل ولا كلل، بالليل والنهار، فالعمل هو الذي يصنع النتائج، والقرآن يدعو للعمل بصدق وإخلاص. فلا يكفي الذكر والدعاء والصيام، فالاكتفاء بذلك يخالف القرآن، وهو ذريعة العاجزين والخائفين. فالذكر والدعاء مطلوبان مع العمل الجاد. ورحمة الله تأتي مع العمل الصادق، فلم يكتف بالقول ﴿وَمَا النَّصرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ بل قال ﴿إِن تَـنْصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ﴾ أي إن تعملوا على نصرة دين الله ينصركم. ولم يعِد المؤمنين القاعدين بالنصر، بل ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾.
والرسول ﷺ قدوتنا الحسنة، وهو الموعود بالنصر لم يتوقف عن العمل لحظة حتى أقام الدولة، وبعدها لم يتوقف حتى فتح مكة والجزيرة معها، وبعدها لم يتوقف فسيّر الجيوش نحو الروم ليسقط أعظم دولة. وجاء من بعده الخلفاء ليحذوا حذوه، فواصلوا الفتوحات حتى فتحوا المدائن العظام وأذلوا الجبابرة والقادة العظماء.
فالعمل لتحقيق النتائج هو الأخذ بالأسباب والمسببات، وذلك واجب شرعا، والتوكل على الله واجب قبل وبعد وأثناء القيام. فالتوكل دون العمل تواكل وضعف عزائم.
إن الفرصة أصبحت سانحة، فقوى الكفر متصارعة، أنظمتها متهاوية، وسياساتها بالية، وشعوبها خاوية، فهي ساقطة لا محالة، فهي كمنسأة سليمان تأكلها الدودة، وقريبا تخر على الأرض مصروعة. فلا عذر لقاعد، ولا حجة لمتقاعس، وقد اتضحت السبيل لمن أراد أن يستبين ويدعو إلى الله على بصيرة، ثلة واعية سائرة على خطا النبي والصحابة، فاللحاق اللحاق بالقافلة السائرة سيرا ثابتا منذ سبعين عاما تدعو لخلافة راشدة. فالله حارسها وناصرها. فالله الله فيمن لحق بها وسار سيرها وضم جهده إلى جهدها، وأجره على الله.
بقلم: الأستاذ أسعد منصور
المصدر: جريدة الراية