﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾
جاء في كلمة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه التي ألقاها بين يدي النجاشي: “كنّا قوما أهل جاهليّة نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويّ منّا الضّعيف…” تلك هي قيم الجاهليّة التي عاشها النّاس قبل أن يبعث الله رسوله ﷺ بالهدى ليخرجهم من تلك الظّلمات وليرفع عنهم الظّلم الذي اكتووا بناره، دعاهم إلى نور الإسلام وأحكامه العادلة التي شرّعها لهم خالقهم، دعاهم إلى “لا إِلَهَ إِلا اللَّه“.
كانت رسالته ﷺ رسالة جامعة مانعة أراد الله بها تغيير كلّ المفاهيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة الفاسدة التي سادت في كلّ بقاع الأرض؛ رسالة جمعت كلّ الأحكام التي تعالج مشاكل البشر وتمدّهم بالحلول النّاجعة الشّافية التي لا يأتيها باطل ولا نقصان فهي من لدن الخبير العليم. لم يقتصر ﷺ على تغيير الأفراد بل سعى إلى أن يقوّض الأنظمة والقيم التي في المجتمع ووضع أنظمة تنبثق عن عقيدة الإسلام. لقد جاء الإسلام رسالة ممتدّة لم تقتصر على مجتمع ولا فئة ولا عصر ولا مصر، هي رسالة للنّاس كافّة ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾.
شرّف الله نبيّه بأن جعل رسالته خاتمة لكلّ الرّسالات، فلم يكن رسولا لفئة أو لقوم بل كان مبعوثا للنّاس كافة. لم تقتصر رسالته على الضّعفاء في مكّة ولا على أهله فيها ولا على من جاورها، بل كانت موجّهة لمختلف شرائح المجتمع وفئاته بل للبشريّة قاطبة، دعاهم ﷺ إلى عبادة الله الواحد الأحد وإلى اتّباع أحكامه وتجنّب الشّرك به والتّحاكم لغيره.
نقل الإسلام المجتمع الجاهليّ من عبادة البشر للبشر إلى عبادة البشر لربّ البشر، من عيش في ظلّ أحكام يفرضها الأقوياء على الضّعفاء إلى عيش في ظلّ أحكام عادلة شرعها ربّ العالمين، هي رسالة مانعة متفرّدة متميّزة لا ترقى أيّ رسالة ولا ديانة أخرى لتشاركها في وضع قوانين صالحة تسيّر حياة البشر.
عمل رسول الله ﷺ على نشر هذه الرّحمة في مشارق الأرض ومغاربها فطلب النّصرة من القبائل حتّى تجد دعوته من يدعمها وينصرها ويدافع عنها، ورسّخ هذه المفاهيم في صحابته حتّى يسيروا على دربه ويمتدّ هذا الدّين وينتشر في ربوع الأرض ويصل إلى النّاس كافّة. وهذا ما فهمه الصّحابة رضوان الله عليهم والتّابعون، فقد وعوا غاية خلق الله لعباده ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ﴾ وتجلّت لهم عظمة هذا الدّين وتفرّده في حلّ مشاكل النّاس وقدرته على ذلك دون غيره من الشّرائع والقوانين التي وضعها الإنسان، وأنّى لهذا الإنسان بالقدرة على ذلك وهو المخلوق العاجز المحتاج؟!
جاء الإسلام فأحدث تغييرا جذريّا اقتلع به كلّ القيم التي قام عليها المجتمع الجاهليّ وعوّضها بقيم من العزيز الحكيم، قيم بيّنتها أحكام شرعيّة نزّلها الله ليتقيّد عباده بها ولا يحيدوا عنها وحتّى لا يضلّوا السّبيل فيبتعدوا بذلك عن المنهج الذي رسمه لهم. بلّغ ﷺ رسالته وأدّى أمانته وسلّمها لأمّته حتّى تكون قائدة للأمم مرشدة لها لتتّبع طريق الحقّ وحتّى لا يُعبَد في هذا الكون غيرُ الله ولا تسود أحكامٌ وقوانينُ غيرُ أحكامه وقوانينه.
ترك رسول الله ﷺ أمّته خير أمّة بيدها زمام الأمور تقود العالم وتسوده، ولكنّ أعداء الإسلام مكروا لها باللّيل والنّهار وعملوا على إضعافها والنّيل منها وحلّت بالأمّة المصيبة العظمى فأسقطت دولتها التي كانت تقوم على تنفيذ أحكام الإسلام وتحافظ عليها وتنشرها، فهي الأمانة التي استودعها نبيّها إيّاها. تمكّن أهل الكفر من أمّة الإسلام ونشروا فيها مفاهيم فاسدة أضعفت فهمها لدينها وفرضت عليها مفاهيم كفر فصلت دينها عن حياتها فصارت تحتكم لقوانين وضعيّة صرفتها عن التّقيّد بأحكام شرعها وعادت إلى الجاهليّة وسلّمت تسيير أمورها وحياتها إلى غير ربّها.
عادت الأمّة الإسلاميّة والبشريّة قاطبة إلى العيش في الجاهليّة. يقول ابن كثير في تفسيره: “وقوله: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوْقِنُونَ﴾، ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كلّ خير، النّاهي عن كلّ شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرّجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهليّة يحكمون به من الضّلالات والجهالات، ممّا يضعونها بآرائهم وأهوائهم”.
فالجاهليّة ليست حقبة زمنيّة سبقت الإسلام ولكنّها العيش في ظلّ أحكام غير أحكام الخالق. والأمّة اليوم تحيا في جاهليّة، تحيا في ظلّ أحكام وضعيّة بشريّة فرضها عليها أعداؤها. صارت تعيش في ظلّ قوانين تعمل على الحفاظ على مصالح رأسماليّين لا يتوانون عن قتل الآلاف من الأبرياء ولا يكترثون لشكوى الضّعفاء ولا لاستغاثات الأطفال والنّساء. لا يخفى على أحد ما تعانيه أمّة الإسلام خاصّة والبشريّة عامّة في ظلّ ما ساد ويسود من أنظمة وضعيّة. وها هي أقنعة هذه الأنظمة تسقط الواحد تلو الآخر لتكشف عن وجوه قبيحة توارت طويلا وراء شعاراتها الزّائفة وادّعاءاتها الباطلة وظهرت جليّا وحوش آدميّة تتحكّم في العالم وتمعن في تعذيب النّاس وقهرهم بل وتستمتع بذلك.
ابتلاءات كثيرة تشكو منها أمّة الإسلام منذ أن تخلّت عن أمانتها، فتحوّل واقعها مريرا؛ فبعد أن كانت تقود وتسود الأمم صارت في ذيلها؛ ينكَّل بأبنائها وتُنتهك حرماتُها وتُنهب ثرواتُها! واقع لا يخفى على العليم الخبير، واقع بيده سبحانه أن يقضي بتغييره ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ فهو القادر والقويّ وبيده الأمر كلّه. يرقب هذا الواقع الذي تفشّى فيه الفساد وكثرت فيه المعاصي ويصبر عليه فلا يخسف الأرض بالظّالمين ولا يرسل عليهم ريحا صرصرا ولا طوفانا ولا صيحة ولا يأتي بقوم آخرين.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ ليظهره الله على الدّين كلّه: أي على سائر الأديان. وثبت في الصّحيح عن رسول الله ﷺ أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» فالإسلام دين الله الذي لا يرضى سواه وأحكامه هي القوانين الوحيدة القادرة على تسيير هذه الحياة.
هذا ما يريده سبحانه وتعالى؛ أن يكون الإسلام متفرّدا متميّزا بارزا، أن تتأكّد أمّة الإسلام والبشريّة جمعاء أنّه الدّين الوحيد الذي فيه صلاح البشريّة وفلاحها، وأنّه وحده القادر على حلّ مشاكلها، وأنّ جميع ما شرّع البشر من قوانين إن هي إلّا ترقيعات وحلول قاصرة سرعان ما يظهر بطلانها وعجزها.
لقد بعث الله رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه وليكون الإسلام هو القيادة الوحيدة التي بيدها إصلاح ما أفسدته وتفسده الأنظمة الجاهليّة التي جعلت لله شريكا يشرّع ويسيّر، ونصّبت بشرا يسنّون الأحكام والقوانين بدل أحكام خالق البشر. بعث الله الإسلام ليكون دين الله الذي ارتضاه لعباده حتّى يحيوا حياة طيّبة ولا اعتبار لأيّ شرائع ولا قوانين أخرى.
يقول سبحانه وتعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ وضع الله سنّته هذه ليمحّص عباده الذين آمنوا ويميّز الصّادقين. امتحان يختبر فيه تقواهم وصبرهم على عبادته وصدقهم في نصر دينه ورفع رايته ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾، ابتلاءات ومحن مرّ بها من قبلُ رسولنا ﷺ وصحابته حتّى يبلّغوا هذا الدّين وينشروه. ضحّوا بأنفسهم وبأموالهم ولم يبخلوا بشيء في سبيل إعلاء كلمة هذا الدّين؛ فقدّم ﷺ تضحيات جساماً من أجل أن يبلغ هذا الدّين مشارق الأرض ومغاربها. لم يصرفه وعيد ولا مغريات، وتحمّل من أجل أن يبلّغ هذه الأمانة كلّ الصّعاب. ذهب أبو طالب إلى أبي جهل وقومه وخاطبهم قائلاً: ما أعظم محمّداً تُعرَض عليه الدّنيا فيأبى ويقول: «يَا عَمُّ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ»، وهذا هو درب كلّ مسلم، وعليه أن يسلكه حتّى يظهر الله الإسلام على الدّين كلّه أو يهلك دونه. وما أعظمها من تضحية: شهادة في سبيل إعادة هذا الدّين العظيم إلى حياة النّاس ليحيوا في ظلّ أحكامه العادلة.
إنّ العيش في هذه الحياة التي خلقها الله لا يمكن أن تستقيم إلّا إذا كانت مسيّرة بأوامر خالقها، وما دامت هذه الأوامر مبعدة ومفصولة عن هذه الحياة فإنّ الإنسان سيعود إلى دائرة الظّلمات والجاهليّة وسيعيش في شقاء وضنك لن تنقذه منه إلّا عودة الإسلام وأحكامه وتطبيقها في ظلّ دولة تحافظ عليها وتنشرها رحمة وهدى للعالمين.
فاللّهمّ استعملنا ولا تستبدلنا واجعلنا من شهود نصرك الذي وعدت وتمكينك لعبادك المخلصين حتّى يعود الإسلام هدى ورحمة تشمل حياة البشر وتنير طريقهم.
كتبته للمكتب الإعلامي المركزيّ لحزب التّحرير
زينة الصّامت
#أقيموا_الخلافة #كيف_تقام_الخلافة #بالخلافة_يحصل_التغيير_الحقيقي
#ReturnTheKhilafah #KhilafahBringsRealChange
#YenidenHilafet #HakikiDeğişimHilafetle