الهجرة ليست حدثا مكانيا فقط
لعل انتقال الرسول الكريم ﷺ من مكة إلى المدينة هو أعظم حدث في الإسلام بعد بعثة النبي ﷺ. فليس هناك حدث أعظم بعد بعثة النبي ﷺ برسالة الإسلام إلا الهجرة لأنها عنت تطبيق هذه الرسالة في دولة ونشرها عبر هذه الدولة بالدعوة والجهاد. فالهجرة مكنت دين الله في الأرض ووضعت حدا لحالة الضعف والهوان والذل الذي كان يعيشه المسلمون في مكة. فمن ذل إلى عز، ومن رعايا إلا حكام، ومن ضعف إلى قوة، ومن تبعية إلى سيادة.
ولذا كان الجهاد قد شرع في طريق الهجرة إلى المدينة حيث نزلت أول آية في القتال ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾. قال ابن عباس، وابن جبير: “نزلت عند هجرة رسول الله ﷺ إلى المدينة”. إذ كيف ستكون هناك دولة ذات سيادة دون جيش وقتال؟! فكان تشريع الجهاد قد سبق قيام الدولة الإسلامية بأيام لتجهيز التشريعات المتعلقة بأعمال الدولة السياسية وعلى رأسها الجهاد والجيش وما يتعلق بهما من أحكام وتشريعات، وهذا يري عظمة الخالق ودقة التنظيم الإلهي والعناية الإلهية لتنظيم شؤون الحياة الدنيا، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
وإن الأمور والعبر والحكم والمناسبات المتعلقة بالهجرة كثيرة جدا ولا يمكن سردها في مقالة كهذه، بل إنها بحاجة لكتب أو مجلدات لإيفاء الهجرة حقها، ولكني أكتفي في هذه المقالة بذكر أهم شيء حدث بعد الهجرة وهو:
الانعتاق الفكري والسياسي للمسلمين في المدينة عن كل دول العالم آنذاك، وتطبيقهم نظاما فكريا وسياسيا جديدا خالصا مصدره الوحي. ولذا بدأت الآيات تتنزل متتالية ومتعاقبة لتركز مفهوم الاستقلالية الفكرية والسياسية في دولة الإسلام الأولى التي أسسها النبي ﷺ في يثرب، طيب الله ثراها. ومن هذه الآيات ثلاث في سورة آل عمران:
1- ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾
2- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾
مناسبة النزول: بينما رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان، ومعهما يهودي جالس، فلم يزل يذكرهما أيامهما والعداوة التي كانت بينهم، حتى استبّا ثم اقتتلا. قال: فنادى هذا قومه وهذا قومه، فخرجوا بالسلاح، وصفّ بعضهم لبعض. قال: ورسول الله ﷺ شاهد يومئذ بالمدينة، فجاء رسول الله ﷺ، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم، حتى رجعوا ووضعوا السلاح، فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ إلى قوله: ﴿وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
3- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُواْ خَاسِرِينَ﴾
أي: إن تطيعوا الكفار على اختلاف مللهم وطوائفهم من اليهود والنصارى وطوائف المشركين، ﴿يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ يعيدوكم إلى الكفر ثانية، ويُضلوكم عن الهدى الذي جاء به الرسول ﷺ، ﴿فَتَنْقَلِبُواْ خَاسِرِينَ﴾ فترجعوا بالخسران المُحقق والهلاك في الدنيا والآخرة.
وتوالت آيات أخرى في مواضع وسور أخرى من القرآن تعزز الفهم السيادي الفكري والسياسي للدولة، واستقلال القرار السياسي فيها، وأذكر منها الآيتين والأولى والثانية من سورة الأحزاب:
1- ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾
2- ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾
فيكون الإسلام بذلك قد أضاف تحريم طاعة المسلم للمنافقين تماما كما حرم طاعة المسلم لأهل الكتاب والمشركين. وبذلك تصبح دائرة عصيان المسلم لغير المسلمين قد اتسعت لتشمل أهل الكتاب والمشركين والمنافقين. وبذلك يصبح المسلمون أمة من دون الناس وما دونهم كفار ومنافقون وأهل كتاب. يتبع المسلمون دين ربهم ويعصون أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في شؤون سياستهم وأمور دينهم، ولذا كان من أهم بنود وثيقة المدينة أن المسلمين أمة من دون الناس، وكان من أهم الأمور في الدولة بعد العقيدة الإسلامية هو استقلالية القرار السياسي عند المسلمين فلا يكون هناك سلطان للكافرين عليهم، قال تعالى في سورة النساء: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾.
بسبب تبعية المسلمين اليوم للدول الاستعمارية الكبرى وبسبب سيطرة المستعمرين على حكام بلاد المسلمين فإن أمتنا التي يبلغ تعدادها مليارين تعجز عن إيقاف مجزرة مستمرة في غزة منذ تسعة أشهر؛ لأن أمتنا مفرقة في دول تزيد عن 55 دولة، وكل دولة منها السلطان فيها للكافرين؛ دستوريا وتشريعيا وسياسية وقضائيا وإعلاميا! والمسلمون مفرقون ومشتتون دون وحدة سياسية ودون قرار سياسي مستقل واحد!
إن الهجرة تعني أن المسلمين قد هاجروا من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة؛ من دار الكفر إلى دار الإسلام، فهي ليست هجرة من مكان إلى آخر وحسب وإنما هي هجرة إلى أحكام السياسة والدولة القائمة على العقيدة الإسلامية في كل مجالات الدولة؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وبذلك يكون المسلم قد هاجر من بلده إلى المدينة، وهجر معها قوانين الكفر وأحكامه، والتزم بقانون الإسلام الجديد في المدينة المنورة، وبذلك تكون الهجرة ليست مجرد حدث مكاني وإنما حدث تشريعي جديد ومتميز حقق السيادة والعدل والرشاد للدولة والمجتمع، ومن خلاله حمل الإسلام في ربوع الدنيا للعالمين.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الدكتور فرج ممدوح